الاثنين، 16 فبراير 2015

أيام من حياة فضيلة الشيخ: محمد عبد السميع صقر


بقلم أحمد الجوهري عبدالجواد
...........
قصتك يا سيدي!!
[ قصة الكفاح التي جسدت التضحية والتفاني, إنسانا يمشي على الأرض, وواقعا يحيا في دنيا الناس ؛ لتصوغ برهانا جديدا على واقعية هذا الدين ]
يبعثها لتضوع على العالمين مسكا وعنبرا, وتصير قدوة ومثالا...
ابنك / أحمد الجوهري
........................

 اليوم الأول
هذه مقدمة لابد منها:
أحبتي! هذه مذكرات حياة فضيلة الشيخ محمد عبدالسميع صقر -رحمه الله رحمة واسعة- من فمه كتبت نقاطها الرئيسية, وسجلت أحداثها الأساسية, وقد كنت اقدم رجلا وأؤخر أخرى في نشر هذه المذكرات, لأن الحديث عن الشيخ رحمه الله حديث جليل , والوقوف بين يديه عظيم مهيب, وقد تهيأت هذه المذكرات واكتملت في استعداد تام للنشر منذ سنة كاملة , ولما جاء موعد نشرها كانت النجوم التي تسطع في سماء مصر, ويشار اليهم وقتها بالبنان , هم جماعة "الإخوان المسلمون" -وكنت طوال سنة حكمهم لا اكف عن النصائح والرسائل لهم والرفض لكثير مما كنت اطلع عليه أو أراه ولا ارضاه- خشيت من نشر هذه المذكرات في تلك الفترة لئلا تحسب من مسالك التزلف التي كان يسعى بها كثير من الذين يزعمون الآن أنهم عارضوا حكم الإخوان ولم يكونوا راضين عن طريقتهم فيه.
واليوم -حيث لا نجم للإخوان ولا قمر, والجماعة - ومعها مؤيدوها وحلفاؤها - مفرقة مشتتة ظلما وعدوانا- لا أراني أتردد لحظة في نشر هذه الصفحات كما كتبتها عن رجل من قادة جماعة الإخوان المسلمين كشهادة عملية واقعية أن هؤلاء القوم ليسوا دعاة عنف ولا يتبنون الاعتداءت مسلكا, بل هم طوال 80 سنة الذين رفضوا هذه الممارسات دعويا وحركيا وفكريا وآتت مساعيهم ثمرتها, في حين لم تفلح الدولة والسلطة اللذان اتخذا الحل الأمني وسيلة لفترة تزيد عن 50 عاما ثم ظهر لهم أخيرا أنه ليس حلا بل هو وقود يشعلها أكثر فعادوا للتضامن مع الإخوان في طريقتهم الفكرية.
..........................
هذه المذكرات في هذا التوقيت ليست تسويقا لفكر الإخوان المسلمين . لكنها شهادة واقعية على غلو الزاعمين اليوم أن الإخوان ليسوا مصريين وبعضهم تطرف فزعم أنهم ليسوا مسلمين.. على الرغم من أن كثيرا من هؤلاء مسه خير الاخوان من قريب في كثير من حياته .. تربية , وتعليما .. وثقافة .. وسياسة .. وأكثر من هذا.
ولا بد من تسجيل القول بأن هذه المذكرات بقدر ما هي تعريف بالواجب ناحية شخصية عظيمة يدين لها بالجميل والمنة عشرات الأجيال , وهي أيضا ذب عن عرض جماعة غائبة عن الساحة ... هي بذات القدر شهادة من صاحبها وكاتبها على أن ذلك الفكر والسلوك الذي تتبعه الجماعة اليوم منقوص عن الذي بينه مؤسسها وهو ما يتضح في "ظاهرة المنتكسين من القيادات والكوادر والاعضاء الكبار.. وأعظم منها ظاهرة المتحولين الذين تركوا دعوة الإخوان من عقود أو سنوات الى المنهج السلفي وأنا واحد من هؤلاء" الأمر الذي لم يحدث في تاريخ الجماعة الطويل بهذا الحجم.. وعلى أجيال الدعوة الشابة التفكير بجدية في مآلات الأمور , ورسم خطوط المستقبل بموازاة الماضي البعيد استدراكا على هذه الحقبة القريبة الماضية, والله الموفق.
...................
بين يدي الحديث عن الشيخ:
قليلون الذين يأتون إلى الحياة ‘ ويرحلون عنها تاركين من ورائهم آثاراً يلمسها الناس من بعدهم, وتقوم شاهدة على فضلهم وعظيم قدرهم.
أولئك تظل ذكراهم في القلوب حاضرة, وللعيون شاخصة, وفي الأذهان ماثله....
ولا نجافي الحقيقة إن قلنا: إن أستاذنا وشيخنا فضيلة الشيخ/ محمد عبدالسميع صقر كان من خيرة من تنطبق عليه هذه المعاني بل ينطبق هو عليها!!
ولئن كان الكثيرون قد اختاروا - في طريق القدوة والمثل - طريقة هينة سهلة, فقد آثر الشيخ مفازة وعرة صعبة! حتى استحق عن جدارة أن يكون رائداً من رواد هذه الناحية التي اختارها في الحياة وهي ناحية الإصلاح الاجتماعى وبناء النهضة على أساس من الدين.
نعم لم يكن الشيخ بأقل همة وعزيمة من كثير من رواد هذا الجيل وأساتذته الذين بنوا ثقافته وفكره وعمروا بالإيمان قلبه وعقله, أمثال الأساتذة الأعلام: أحمد محمد شاكر, ومحمد الغزالي, ومحمود محمد شاكر, والبهي الخولي, وفتح الله بدران, وعبد الحليم محمود, ومحمد البهي, ويوسف القرضاوي, ومحمد صفوت نور الدين, وخالد محمد خالد, ومحمد رجب البيومي, ومحمد حامد الفقي, ومحمد أبو زهرة, وعبد الرحمن الوكيل.... وغيرهم ممن لو قدر للشيخ سلوك سبيلهم, لرأيناه يبز الكثيرين منهم, ويفوقهم شهرة!!
ولكن الشيخ آثر ذلكم الجانب الذي نحسب أنه لا يقل أهمية عن المجهود العلمي وثمرات الفكر والاجتهاد لهؤلاء ؛ وهو مجال الإصلاح العملي والاجتماعي.
ولذلك كان لزاماً علينا- تجاه هذه الظاهرة الفريدة أو القليلة في دنيا الناس ـ أن نخلد ذكرها, وننشر في العالمين فضلها مشيدين بخلالها وأخلاقها, مشيرين إلى إنجازاتها وآثارها, فكانت -لأجل كل هذا- هذه الصفحات التي بين يديك قارئي الكريم,
حاول كاتب هذه السطور محاولات شتى, استغرقت سنين عددا مع صاحب الفضيلة, أن يكتب بنفسه مذكراته، ويسجل بقلمه آثاره, فكان الشيخ -رحمه- يأبى ذلك كل الإباء؛ حجته في ذلك: ألا يكون هذا العمل مما يشوب حياته بالرياء, ويغريه بحب الشهرة أو ذيوع الصِّيت,حتى يسّر الله- بعد لأي وتعب شديدين- إقناع الشيخ بفكرة إفادة الأجيال من التجربة- وبعد تكرار وتوسُّل أملي على كاتب هذه السطور جزءاً من تجربته,سجلها الكاتب في أوراق متفرقة على هيئة مسودة ثم يسُّر الله فكان بعد وفاة الشيخ -رحمه الله- أن بيضها وحررها ؛ لتصل إلى هذه الصورة التي هي بين يدي القارئ الكريم ؛ فلعلها تكون اعترافاً بجميل الشيخ الكبير على الكاتب الذي لا يتطلع أن تكون رداً لشيء من جميله, إذ يعتقد أن جميله يربو على كل صنيع, ولا يقوم له شيء!! لكن هي تعبير عن حبه في قلبه
وفي الحلقات القادمة نتابع ذكريات الشيخ ونعيش في رحابه.
كتبت هذه المذكرات في مستشفى قطور المركزي, أثناء إقامة الشيخ رحمه الله بها المرة الأخيرة والأطول من حياته, وقد قضى الكاتب معه خلالها 10 أيام سجل هذه المذكرات عن الشيخ

"اليوم الثاني":
إرهاصات المولد:
في 1927/6/22م وعلى تراب قريتنا الحبيبة "قرية نشيل مركز قطور محافظة الغربية" ولد العظيم الراحل/ محمد عبد السميع صقر رحمه الله.
وكما تسبق الحدث الكبير بشارات وإرهاصات تنبئ عن قرب حدوثه, كانت الآونة التي سبقت ولادة الشيخ ملأى بالإشارة الى أن المولود الصغير ينتظر مستقبلا فريدا , يصنع خلاله عملا مبهرا.
لقد كان البيت ( الصقراوي ) - أو كما كان يحلو لصاحب هذه الترجمة أن يسميه " المملكة الصقراويه " - معهدا علميا يزخر بالمساجلات والحوار في المسائل العلمية المتنوعة من مسائل الشريعة وأمور السياسة والثقافة العامة, ولا عجب فالعميد "الجد/محمد صقر", والأساتذة "الآباء/ عبدالرحمن وعبدالله وعبدالسميع", والطلاب " الأبناء/ زين العابدين , ومحمد , وعبد الحقيظ" الكل كانوا من اهل العلم الراسخين فيه , فكيف لا تكون البداية مبشرة والارهاصات مؤشرة! وما تلد تلك الأسود غير هذا الشبل وهم الذي تغنى شاعرهم النابغة قائلا :
ولولا همتي وعظيم قدري لما رفعت بنو صقر عمادا
والدا الشيخ:
ولئن سبق في الحلقات الماضية أن أشرنا الى جد الشيخ وبعض اعمامه والى اخوته, فانني اشير الى طرف ايضا من حياة والده رحمه الله لنرى من اين أتى هذا الشبل.
والد الشيخ "عبد السميع" ذكاء كبير وعمر قصير!!
يذكر "الشيخ محمد" والده فيقول: كان والدي ـ عليه رحمة الله ـ متوقد الذهن, ذكيا ألمعيا , وكان مرحا اكتسب المرح والدعابة من والده, كما اكتسب منه العلم , والشجاعة في الرأي, والجرأة في الحق.
تزوج "عبدالسميع" من شقيقة زوج أخيه عبد الله من محلة " أبو علي أجوار المحلة الكبرى" وأنجب ثلاثة من الأولاد هم: محمد زين العابدين, ومحمد, وعبد الحفيظ, ومات عنهم في حياة والده وله من السن ( 46 ) ست وأربعون سنة, وكانت وفاته سنة 1943 م, وكان لأكبر أبنائه من العمر "فضيلة الشيخ زين العابدين" ( 21 ) سنة إحدى وعشرون سنة, وللشيخ محمد ( 16 ) ست عشرة سنة, وللأستاذ عبد الحفيظ أصغرهم ( 8 ) ثماني سنوات, هؤلاء هم الذين عمروا من أبناء الشيخ عبد السميع, وإن كان ثم غيرهم لم يكتب له أن يعمر , فقد قال لي الشيخ محمد ـ يذكر إخوته ـ: كان لي أحد عشر أخا, ولكن الله ـ تعالى ـ لم يقدر إلا لنا نحن الثلاثة أن نعمر, فقد كانوا يموتون صغارا!
ولعلها كرامة أراد الله ـ تعالى ـ أن يدخرها لهذا الرجل الصالح ـ نحسبه كذلك ولا نزكي على الله تعالى أحدا ـ أن يكون له ولزوجته في هؤلاء الأطفال فرط يسبقهما ويكون بين أيديهما عند الحوض وباب الجنة, يشفعون لهما عند ربهما, كما أن لهما خلف من الأحياء يصبون في ميزان حسناتهما ـ إن شاء الله تعالى ـ صبا!!.
كابدت الأسرة الصغيرة المشاق بعد رحيل عائلها, بخاصة بعد ما رحل بعده بقليل ـ الجد العطوف " محمد صقر " الذي كفل ابناء ابنه ليوم رحيله, ثم رحل هو عنهم أيضا, لتبدأ هذه الأم وأبناؤها الثلاثة رحلة كفاح شهدت الأيام والليالي بأنها رحلة استطاعت أن تخط قصتها في جبين الدهر, بخطوط عريضة , بأحرف من المجد والعظمة والعلم والحكمة, وليشهد الزمان والمكان قصة من أروع قصص التاريخ، تخط مجدا من أعظم الأمجاد على أرض الواقع, وتشيد صرحا من أعظم الصروح في دنيا الناس!
وما هذه العظمة, وما هذه المكانة إلا لما حملوه من مشاعل الدين, والعلم , والصلاح, وحسن السيرة, وطيب الذكر والأثر, وصدق من قال: " ما مات ميت والذكر يحييه ", ولله در القائل:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى!
ولك شواهد وأدلة فيما مضى من تراجم الأخوين وما يأتي في ترجمة الشيخ.
لقاء "عبدالسميع" بالإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ!
ولعلنا نعجب إذا علمنا أن والد الشيخ كان من المعجبين للغاية بفكر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله تعالى- بل هو الذي هيأ الشيخين محمدا وعبد الحفيظ للالتحاق بصفوف جماعته, يقول الشيخ: وكان والدي هو الذي هيأنا للقاء الشيخ البنا, وإقناعنا بدعوته بالثناء عليه كثيرا, فكنا متشوقين لرؤيته ولقياه, وسماع حديثه قبل أن نراه.
يقول الشيخ: كان والدي ذات مرة في طنطا, وجاء ليحكي لنا عن محاضرة حضرها لأحد الدعاة, استمر هذا الداعية يتحدث فيها ما يزيد عن ثلاث ساعات متواصلة, أخذ خلالها بألباب الحاضرين, وأسر نفوسهم, وما تسرب الملل خلالها لحظة إليهم, وقد أعجب أبي به كثيرا, وذكر من نصاعة فكره, وحسن بيانه, وجمال كلامه, ما شوقنا إلى معرفته, ثم سماه لنا فقال: هو يسمى "حسن البنا", وقد سمعته بشعبة الإخوان المسلمين بميدان الساعة بطنطا!!
وحدثني الشيخ عن والده مرة أخرى , كان ذلك في مجلس مليء بالدعابة والمرح, فمضى يقهقه - بطريقته الخاصة المجلجلة - ثم قال: حدث مرة أن طلب والدي يوما من جدي الشيخ الكبير محمد صقر, أن يأتي له بكسوة, فذهب إليه عند زوجته الثانية التي تزوج على أمه, فأخبره بطلبه, وكان ذلك على مرأى من أصهاره الجدد, فكأن الشيخ أراد أن يظهر لأصهاره أنه لا يذعن لطلبات أبناء ضرة ابنتهم, فرفض طلب عبد السميع , وقال له بدعابة: " امشي يا ولد! روح انكسي من ط..... الحمارة ", يقول الشيخ: وهنا مربط الفرس, إذ ما صدق والدي أن سمع هذه الكلمة من جدي حتى أسرع الى البيت, فأخذ الجحشة الصغيرة (ابنة الحمارة ) التي عندنا, وذهب بها فباعها, ليعود بعد قليل الى البيت وقد اشتري بثمنها كسوة له ولإخوته.
يقول الشيخ: فلما جاء الشيخ الكبير, ولم يجد الجحشة سأله "باللهجة الصقرية " أين الجحشة يا ولد؟
فقال: ألم تقل لي: " انكسي من ط... الحمارة؟ أنا انكسيت, لكن ليس منها مباشرة وإنما من مكان قريب منها!!, فما تمالك الشيخ الكبير نفسه من الضحك حتى وقع على الأرض من شدة الضحك!!
هذه نبذة مختصرة عن والد الشيخ رحمه الله تعالى, على قدر معرفتي.
والدة الشيخ:
وأما والدة شيخنا الفاضل فقد كانت من " محلة ( أبوعلي ) " وكانت مقيمة بالمحلة الكبرى مع أسرتها.. وهي سبب نقلة الأسرة بعد ذلك الى المحلة لما شرفت بانتقال الشيخ زين رحمه الله تعالى اليها, وكما أسلفنا فهي وزوجة الشيخ عبد الله -أم الشيخ رشاد والشيخ كمال- أختان شقيقتان, فقد تزوج الأخوان عبد الله وعبد السميع بالأختين.
وكانت هذه السيدة الكريمة مكافحة جاهدت في سبيل تربية أولادها كثيرا وقد كانت صناع اليدين إذ كانت تعمل " خياطة ", وهي أم في هذا المجال لأجيال من قريتنا, تفضلت عليهم فعلمتهم, وصارت الخياطة مهنتهم ومصدر تكسبهم ولقد أخبرني الشيخ أنها كانت تطلبهم من فقراء الناس ومتوسطي الحال لتورثهم مهنة يتكسبون منها , فرحمها الله رحمة واسعة!
ولادة قلب:
في ذلك التاريخ, وعلى هذه الأرض, ووسط هؤلاء الفحول, ومن هذين الأبوين الكريمين, ولد صاحب الفضيلة الاستاذ الشيخ/ محمد عبدالسميع صقر.
نعم ولد القلب الذي سيحمل هموم البائسين كهمه، ويمسح دموع الثكالى كدمعه، ويواسي المنكسرة قلوبهم كنفسه، ويعمل بهمة ترى كبريات الأمور صغارا ، ليشاطر المحزون ، ويهنئ المسرور ، ويسعى جاهدا على رعاية ألوف القلوب التي طالما حمل همومها في قلبه الكبير....
ولقد كانت حياة المولود حافلة بالأحداث من أول وهلة ....
ومع يوم جديد من أيام الشيخ .. في الحلقة القادمة.. بمشيئة الله.


 "اليوم الثالث"
من أروع قصائد أمير الشعراء/ أحمد شوقي تلك القصيدة التي نظمها في رثاء الزعيم الكبير/ مصطفى كامل ـ رحمهما الله تعالى ـ والتي من أبياتها هذا بيت جدير أن تكتب حروفه بماء الذهب, بل الذهب في معانيه قليل!! يقول فيه الأمير:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
كلما لاح لي وجه الشيخ صقر ـ رحمه الله ـ تبادر هذا البيت إلى ذهني , وكلما قرأت هذا البيت ذكرني بالشيخ.
لقد كان يتملكك أثناء مجالسة الشيخ, وأيضا وأنت تستمع إلى كلامه, شعور يقيني بأن الكلمات تخرج من أعماق قلبه, معبرة مجلجلة, باسمة حينا وحزينة حينا آخر, تؤدي في سامعها رسالة مفادها: اليقين في صدق الشعور وصحة العزيمة, وكأن الشيخ يبعث من روحه في الكلمات, فتقع من نفس مجالسه وقلبه, فيبقى في شوق دائم الى حديثه ومجالسته, واذكر أنه لم يمر لقاء لي به دون أن يتملكني هذا الإحساس.
هذا عزيزي القارئ هو " مفتاح شخصية الشيخ " أحببت أن الفت نظرك اليه لتمسك بخيطه في يدك وانت تتابع هذا الرجل العظيم في رحلة حياته التي تخطت ال 70 سنة وسع قلبه الكبير خلالها متاعب السنين الطوال العراض, فما أنّ وما توجع!!
كانت حياة الطالب محمد صقر مليئة بالأحداث , التحق كعامة ابناء جيله بكتاب الشيخ الكبير/ متولي الخولي ـ عليه رحمة الله تعالى ـ حيث أتم فيه حفظ القرآن الكريم كاملا, والتحق بعد ذلك بالمدرسة " الإلزامية " نظام الخمس سنوات, وكانت هذه المدرسة في قريتنا , عند بيت العمدة ـ دوار العمدة داود رحمه الله- وكانت مكان برجي الحمام الكائنين إلى يومنا هذا ـ وكانت مبنية بالطوب اللبن.
قضى الشيخ أيامه في هذه الابتدائية حتى مرت به السنوات, وكان صاحب مستوى ممتاز بين صفوف إخوانه وزملائه, وموضع نظر من أساتذته, شاكرين له جهده وفطانته!
وبعدما انهى سنوات المدرسة الخمسة أخذه أخوه "الشيخ زين" إلى المعهد الأحمدي بطنطا ؛ ليجري له اختبارا للالتحاق بالمعهد الأزهري, وله من العمر( 17 سنة ) ويذكر الشيخ عن تلك الفترة من ذكرياته أمرا طريفا حدث له في أحد هذه الامتحانات!
فقد كانت مادة الامتحان في ذلك اليوم " الإنشاء والتعبير ", وقد أوصاه فضيلة الشيخ زين قبل دخوله إذا كتب أن يكتب في صلب الموضوع, وألا يحيد عن المطلوب, والطريف أن "محمد" طبق الوصية بحذافيرها وحروفها, فدخل ليكتب في أعماق صلب الموضوع لا صلبه فقط, قال: ووجدت السؤال أمامي كالتالي: "حضرت إلى المعهد للكشف عن نتيجة الامتحان, فوجدت اسمك ضمن كشوف الناجحين, فكتبت إلى والدك خطابا, تهنئه فيه بنجاحك, فماذا تقول؟"
يقول الشيخ: فكتبت:
" حضرة والدي العزيز! ـ حفظه الله وأبقاه وأطال في عمره-, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
فقد توجهت إلى إدارة المعهد, للكشف عن نتيجة الامتحان, فوجدت اسمي من بين الناجحين الفائزين, فأهنئكم بهذا النجاح الباهر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته "!
ولما خرجت إلى الشيخ, لقيني متشوقا إلى معرفة ما فعلت, ولما أخبرته بما كتبت فوجئ بما قلته له, وقال لي: إن إدارة المعهد تشترط في موضوع الإنشاء ألا يقل عن (12) سطرا! ؛ فقلت: ألم تقل لي: اكتب في صلب الموضوع؟ فقد كتبت في ذلك, أليس الموضوع مقدمة وافتتاحية وغرض وختام؟!, فضحك الشيخ, ثم قال لي: لا تحزن ستنجح بما كتبت ـ إن شاء الله تعالى ـ ثم مازحني قائلا: " يعني يا محمد كنت بحبحها شويتين يا أخي!! ", يقول الشيخ: وكان والحمد لله ـ أن نجحت.
التحق الشيخ بعد نجاحه في المسابقة بالصف الأول الإعدادي الأزهري بمعهد "المنشاوي" بطنطا, ثم دخل الثانوية نظام الخمس سنوات بـ " معهد طنطا الأحمدي" فقضى به الثلاث سنوات الأول على خير , وكان قد تعرف خلال هذه الفترة على دعوة "الإخوان المسلمين" التي عملت كدعوة دينية وحركة سياسية في أيام الملكية, وعارضت الاحتلال الانجليزي لمصر, وقاومت فساد الملكية وقتئذ, بل استمرت في معارضة حكم الرئيس عبد الناصر بعد الثورة, وقد استهوت هذه الدعوة كثيرا من طلاب المدارس والجامعات, فانخرطوا في العمل ضمن صفوفها, وكان كثيرا ما تقبض عليهم السلطات فتعتقلهم أثناء المظاهرات والمسيرات, وقد اعتقل الشيخ محمد صقر أثناء بعض هذه الفعاليات وهو لا يزال في الصف الثالث الثانوي, ليتم تعليمه بعدها في المعتقل!
يقول الشيخ عن هذه الفترة: "فصلت من المعهد في عام 1954 م وانا في الصف الثالث الثانوي بسبب انتسابي لجماعة الإخوان المسلمين, على إثر خطبة جمعة ضد الثورة, ودخلت سجن طنطا العمومي ومكثت به ثلاثة عشر يوما, وأفرج عني بعدها, لكن لم أعد الى المعهد, ثم أعيد اعتقالي في أغسطس عام 1955 م, وأفرج عني في إبريل عام 1956 م , لأقضي سنة كاملة داخل المعتقل, ثم اعتقلت في عام 1965 م, ومكثت سبع سنوات وشهرا وعشرة أيام, في هذه المرة, ولم أحصل على الثانوية الأزهرية نظام الخمس سنوات الا في المعتقل عام 1968م بلجنة معتقل " طره " السياسي, لألتحق بعدها بكلية " أصول الدين ", وظل مكاني محفوظا بالكلية إلى ما بعد الإفراج عني في عام 1971 م .
ويحكي الشيخ عن اشتراكه خلال هذه الفترة في مظاهرات الطلاب ضد الاحتلال الانجليزي فيقول: "كنا إذا علمنا بقطار الإنجليز قادما من هناك مارا بطنطا الى القاهرة أو الإسكندرية, نستعد له, وكانت لي لجنة من عشرين طالبا, أخرج بهم للمظاهرات ومعنا الزلط وكانت خزانتي (شنطتي) أملؤها قبل أن أخرج من البلد, ويحملها لي اثنان!!, ويكون الطلاب كل قد ملأ حقيبته عن آخرها بالزلط من اليوم السابق, ونخرج لنصطف على طول طريق السكة الحديد من الجانبين, ونرميهم بالزلط, وكنا ننال منهم, ونعلنها "غضبة الأزهر" لله ولدينه.
وكنا نحسن التصرف والتدبير: نكتم أخبارنا حتى وقت التنفيذ, لان إدارة المعهد كانت اذا علمت بترتيباتنا, تغلق علينا البوابات, وتمنعنا من الخروج!
ثم يضحك ويقول: وكنا رغم ذلك نخرج, كنا نهدد البواب وكان يسمى " سبكي ", إذا لم يفتح لنا الباب أن نرجمه بالحجارة, فكان يخافنا ويفتح لنا الباب!, وكنا ننشد جميعا في صوت واحد:
افتح سبكي لنا البابَ لتفوز بعفو الطلابا
وإذا امتنعت كسرناكَ وبطوب الأرض رجمناكَ
يقول الشيخ:
ومن الذكريات المحفورة في ذاكرتي عن هذه الفترة, أننا كنا نخرج متظاهرين أيضًا ـ وكنا قد تعودنا على المظاهرات ـ إذا تأخرت " الجراية = التموين " التي كانت تأتينا من "الأزهر", وكنا نقول في ذلك أشعارا و ننشد " أزجالا " ومنها:
الله حي عايزين شاي الله أكبر عايزين سكر
وكنا أيضًا نقول:
قولوا لشيخ المعهد صاحب المقام الأمجد
هات " الجراية " عاجلا لا تركنن إلى الغد
فالجيب أصبح خاليا والقرش فر من اليد!
وكنا أصحاب جرأة, فقد كنا نخرج في المظاهرات خارج المحافظة, ونخرج إلى القاهرة إذا كان هناك ما يستدعي ذلك, وأذكر مرة أنه جاء الملك فيصل لزيارة مصر, فخرجنا من طنطا بأعداد غفيرة لنلقاه في القاهرة, والعجيب أننا لم يكن معنا نقود, ورغم ذلك خرجنا وركبنا القطار إلى القاهرة, وداخل القاهرة كنا نستقل " التروماي ", وهو يسرح بنا ويشد, ونحن بالمئات من شباب الإخوان, وكان "الكمسارية" عرفونا, فلا يقفون لنا, لأننا لا ندفع لهم الأجرة, وإنما نستعبط عليهم, نعم, ومن أين لنا أن نأتي بالمال والمظاهرات كل يوم أو كل يومين, واحنا طلبة , ايه هنصرف على الدولة في مظاهرات لصالحها؟!, وكانت طريقتنا أنا كنا نقف أمام التروماي ونقول له (هش) وقف يا أسطى!, فيقف مرغما فنركب جميعا, ثم نقول له: شد يا أسطى!, ويأتينا المحصل يطالبنا بالتذاكر, فكنا نرفع أصواتنا بالهتاف ونقول: " يعيش جلالة الملك, يحيا جلالة الملك! " فيقول:
( خلاص خلاص مش عايز تذاكر )! فنضحك ونكمل الهتافات, ونزلنا حيث سينزل الملك " فيصل"!
ولما صرنا هناك هتفنا جميعا:
طرد المحتل هو العمل وكتاب الله هو الأمل!
أشبال الأزهر قد جاءوا يلبسون الطرابيش والبدل!
وكنا ـ طلاب الأزهر نلبس العمم, وطلاب المدارس يلبسون الطرابيش, ومن الطريف أنا كنا إذا رأينا فتورا في الصفوف, وأردنا أن نشجعهم نهتف جميعا: تحيا الطرابيش مع العمم!
وكانت الأيام التي تلت ذلك مليئة بالأحداث المثيرة.
ونكمل في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
 
(اليوم الرابع)
من المشاعر والأحاسيس ما لا يمكنك التعبير عنه بالحروف والكلمات, فإذا عبرت عنه جاءت تعبيراتك صورة وليست أصلا.
كنت وأنا أكتب هذه الذكريات , تشغلني عنها الشواغل احيانا؛ فكنت اذا فرغت بعض الوقت, أعود سريعا, أحث الخطا متناسيا كل من حولي, ولسان حالي يقول لي: أسرع, أسرع بنا قبل أن يمر الوقت, لعلي إلى من هويت أطير!
وها هي الأيام تمر ثانية -مع هذه الحلقات- ليعاودني ذات الاحساس, فهل تحسون معي ما احس؟؟
فتعالوا بنا نطير عبر الزمان في رحاب الشيخ:
مضت الايام بالطالب "محمد صقر" تحط به وتضع, وكان قد تعرف على دعوة الاخوان المسلمين في بداية المرحلة الثانوية, ولم تكن المرة الأولى التي سمع عنهم فيها, مر بنا أن والده هو الذي عرفه بإمام الدعوة وداعيتها الإمام حسن البنا, يقول الشيخ: والدي هو الذي هيأ لنا وهيأنا للقاء الشيخ البنا ودعوته بالثناء عليه, فكنا متشوقين لرؤيته ولقياه, وكنا نسمع عن صفاته ما يجعل شوقنا إليه أحر وأشد, فقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ شخصية فذة استرعت انتباه كل معاصريه, حتى قال فيه أحد الإنجليز وهو " تشرشل " ـ رئيس وزراء بريطانيا ـ: "حيرني أين تربت هذه العقلية؟!! " وكتب الانجليزي المعروف "روبير جاكسون" كتابا كاملا عنه ومما قاله فيه: "في فبراير سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة .. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتب في " النيويورك كرونيكل " بالنص:
«زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان... هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكرًا .. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم جيدًا أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف .. وبطريقة شاذة ..».
يقول "صقر": وقد عشت مع الإمام البنا, وعرفت روحه عن قرب, وتمتعت به سنين عددا, ثم استشهد بعد ذلك بأيدي الطغاة المجرمين في ( 1949/2/12 م )
كان البنا شخصية جذابة أرغمت كل فئات المجتمع في زمانه على الالتفات اليه, على اختلاف مشاربهم وتنوع طبقاتهم وثقافاتهم.
يتحدث "صقر" عن أستاذه الإمام فيقول: كان الأستاذ البنا صاحب عقلية استطاعت أن تجمع على رأي واحد فيها كل فئات المجتمع من حده الاعلى الى حده الادنى حتى إنه نزل " بولاق " تلك المنطقة التي تغص يومئذ بالمجرمين والبلطجية ـ وكان قد جاء لحضور حفل قد أقامه الإخوان كوسيلة لنشر الدعوة بها, وكان رئيس البلطجية بمنطقة بولاق يسمى " إبراهيم كروم " وكان يزمع على هدم الحفل على رأس الحضور, ويضرب كل من تسول له نفسه الحديث فيه, وقد جمع أنصاره, وأخذ أهبته للقتال, فإذا بالأستاذ البنا ـ لما علم بذلك ـ يبتسم, ويقول: دعوه لي, ثم دخل ليتكلم, وكان الإخوة يستعدون للدفاع عنه فقال لهم: لا تخافوا من شيء ودعوني وحدي, فلما رآه رئيس البلطجية, قام إليه, فابتسم "البنا" في وجهه, ومازحه, ثم طلب اليه أن يجلس يستمع للكلام, فإن أعجبه استمع, وإلا تركه البنا وترك له المنطقة كلها لا يعود إليها بعد ذلك, وهيأ الله تعالى نفس "إبراهيم " وجماعته فجلسوا!!
وكان من فطنة "البنا" أن صب حديثه كله عن صفات النبي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقواه البدنية, وكيف أنه كان فارسا لا يشق له غبار, وكان يصارع الشجعان فيصرعهم, وصرع أشجع العرب " ركانة ", وأخذ "البنا" يتحدث عن هذا الجانب من حياة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أخذ بألباب الحضور, وكان أكثرهم انجذابا لحديثه وانبهارا به " إبراهيم كروم ومن معه من البلطجية " الذين لم يملكوا أنفسهم من الدهشة وبخاصة عند ذكر حديث " ركانة " فلما وصل الشيخ إلى نهاية الحديث, وفيه أن النبي صرعه ثلاث مرات, إذا بهم يقولون في صوت واحد ملؤه الإعجاب والانبهار: " اللهم صل على أجدع نبي"!!!
رجل صنع من البلطجية إخوانا!
وكان من فضل الله ـ تعالى ـ في هذه الليلة المباركة, أن تحول " إبراهيم كروم وعصابته " إلى إخوة صالحين, وصاروا من " الإخوان المسلمين ", وأعز الله بهم الدعوة.
ثم يتساءل "صقر ": أليس هذا دليلا على فطنته, وقوة حجته, وحسن مدخله إلى القلوب؟! , فكان أن صنع من" البلطجية " " رجالا"في طريق الدعوة إلى الله تعالى!!
يقول "صقر ": وعاش (إبراهيم كروم ) حتى اعتقل معنا في الله, وأذكر من طرافته أنه كان إذا رأى الأستاذ حسن الهضيبي بعد هذا لما حصلت الاعتقالات واعتقل هو مع الأستاذ الهضيبي ـ والأستاذ الهضيبي مستشار وقاض كبير, رجل ابن أكابر, ولم يكن صغيرا بل كان كبير السن شيبة ـ وابراهيم كان بلطجيا مجرما قبل ذلك فسجن "إبراهيم " في زنزانة بجوار قاضيه, فكان كلما خطر بباله هذا الخاطر كان ينظر من أسفل الباب فيقول للأستاذ: (أستاذ هضيبي!!, يا حتة من قلبي يا هضيبي! إنت مش وش بهدلة يا حبيبي!), فيضحك الأستاذ المستشار, وهو في قمة الألم من شدة ما لقي من عذاب!
هذه نظرة التلميذ " محمد صقر " في أستاذه " حسن البنا " الذي كان بحق أستاذا للعبقرية, وذاك الشبل من هذا الأسد!
ثم ماذا؟
شب الطالب "محمد صقر" فصار أستاذا كبيرا لقطاع كبير لا يحصى عدده, وما لقيه احد في طريق حياته -أكبر منه أو أصغر - إلا تعلم منه!
نعم فلقد كان صاحب شخصية عظيمة تدعو كل من لقيها للتساؤل عن صانعيها وأصحاب التأثير فيها, وما كنت قط على شيء أحرص مني على أن أسأله -رحمه الله- عن الذين تأثر بهم في حياته فسألته يوما عن ذلك : فذكر لي أولا الأستاذ البنا, قال: وإن كانت المدة التي قضيتها معه, كانت قليلة جدا " سنتين فقط ", وقال لي أيضًا: وأبرز من تأثرت بهم ـ في المرحلة الأولى من عمري ـ مدرس في المعهد الأزهري الأحمدي ـ بطنطا يسمى " الشيخ إبراهيم عجلان ـ من " شبرا بابل ", وكان يحاضرنا, ويتحدث إلينا عن زيارته " لليمن " وكان شيخا مرموقا, وكان ممن نعتز بهم ونقدرهم, وكذلك تأثرت ب" الشيخ حسين عوض " مراقب المعهد وكان صعيديا.
كما كنت أستمتع بأحاديث " الشيخ الغزالي " وهو شاب إلى أن ذهب إلى (السعودية) وكنت أحضر للأستاذ " البهي الخولي ", وكنت أقرأ أو أستمع لفضيلة الشيخ " سيد سابق "!
وممن كنت أقرأ لهم كذلك دوما الأستاذ ( سيد قطب ) حتى قبل أن يلتحق بالإخوان, فقد كان يكتب في المجلات الأدبية المختلفة فكان ممن تأثرنا بهم كثيرا!!
ولعل أكبر هؤلاء جميعا أثرا في حياة الشيخ صقرـ رحمه الله تعالى ـ هو فضيلة العلامة الكبير الأستاذ ( محمد الغزالي ), فقد كنت أرى في الشيخ صقر صورة من (الغزالي ) في كلامه وتصرفاته, ومواقفه وقراراته, لعله مما تشربته نفسه منه تأثرا به نتيجة الحب العميق الذي يحمله له بين أضلعه وحناياه!! وسنعود فنقص عليك طرفا من صحبته له.
من أساتذته أيضًا
فضيلة الشيخ " محمد محمد على الديب " الشهير بالشيخ " الديب " وكان أول عميد لكلية اصول الدين بطنطا, (اقرأ الحلقة رقم 1 من اعلام نشيل) يقول الشيخ: كان الشيخ الديب ـ رحمه الله تعالى ـ رجلا عالما بحق, وكان أول امره شيخا بالمعهد الأحمدي بطنطا أيام أن كان المشايخ مشايخ!, وكان الأستاذ الديب ـ رحمه الله تعالى ـ إذا نزل البلد, ترك فضيلة الشيخ " المصري " له الخطبة في العمري " الجامع الكبير ", فيخطب بنا الجمعة, ثم يذهب إلى بيته, وكنا ـ نحن الطلبة ـ نحيط به من كل جانب, ونكون عنده نسأله, ونذهب معه إلى بيته, فيجلس في حجرة واسعة في بيت صهره " الشيخ يحيى خطاب " ـ عند بيت الشيخ فيصل خطاب بشارع دار كامل ـ نحيط به ونسأله, ويرد على الناس من كل حدب وصوب فيسألونه ويستفتونه في أمور دينهم فيفتيهم, وكان الشيخ إذا خطب الجمعة أبدع وبرع وصال وجال, وكان يوم متعة لنا جميعا, فكنا نتسابق على الصف الأول حتى نجلس قريبا من الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان يمتعنا برؤيته وحركاته قبل أقواله وكلماته!
وكان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ إذا خطب يتحرك يمينا وشمالا ممثلا بارعا يتتبع الناس فاه ها هنا وها هنا, وكان الشيخ ـ عليه رحمة الله تعالى ـ من العلماء الذين انتقلوا من التدريس الأولي في الأزهر إلى جامعته حيث عمل بكلية الشريعة الإسلامية بالقاهرة, وبعث إلى " السعودية " في البعثة الأزهرية التي سافرت إليها, وكان رئيسا للبعثة, وكان عضوا مرءوسا من الشيخ الديب ـ في هذه البعثة ـ فضيلة الإمام " الشعراوي " وكانا صاحبين وحبيبين, وكان الشيخ الشعراوي يأتي إلى " نشيل " لزيارته والتردد عليه في البلد ولقد حضر جنازته بعد وفاته ـ رحم الله تعالى الجميع ونفعنا بوفائه ـ!!
رأي الشيخ الديب "وانصافه" في الدكتور القرضاوي!!
يقول الشيخ "صقر" : وجاءت سيرة الدكتور " يوسف القرضاوي " وبعض الطلبة ذكر انه اعجز لجنة المناقشة لرسالته "الدكتوراة" ", فقام الشيخ الديب, وكان متوكئا فنهض من فراشه واعتدل وقال: " الحق أن يوسف القرضاوي عالم وهو طالب " وكنت أول مرة أستمع الشيخ الديب وهو يتكلم عن تلميذه " يوسف القرضاوي ". ولم أكن أعرف انه تلميذه.
هؤلاء ابرز من تأثر بهم الطالب "محمد صقر", زيادة على اساتذته وشيوخه في الازهر الشريف, على مر مراحله فيه.
انتهى المطاف "بمحمد" في التعليم الأزهري إلى الصف الثالث من المرحلة الثانوية ثم جاء الاعتقال الثاني, فدخل الشيخ المعتقل, وأكمل تعليمه فيه لتبدأ مرحلة جديدة في حياة هذا القلب الكبير, ولتشتد دقاته وتتلاحق أنفاسه, في رحلة من الحياة زادت عن عشر عمره, ذاق الشيخ خلالها صنوف العذاب, وألوان الهوان تحت سياط المجرمين الظالمين في "السجن الحربي" وأشقائه: الطور, وأبي زعبل وغيرها, ولهذا حديث طويل نتناوله في الحلقات التالية, بمشيئة الله!

 (اليوم الخامس)
في حياة كل مناضل مسلم مرحلة من الإعداد, بالصهر الإيماني في بوتقة الابتلاء, وتمرين النفس على تحمل المصاعب والمشاق, في سبيل إصلاح الأرض بمنهج السماء, وكما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
فما بالك بنفس تربت على قول الحق والجرأة فيه, في زمان كان لايجرؤ الرجل على ابداء وجهة نظره ولو في أذن امرأته؟! كان الشيخ "محمد صقر" ممن سجلوا اعتراضهم بقوة على كثير من الاجراءات والسياسات التي كانت تنتهجها السلطة الحاكمة لمصر في زمانه, ولأن من في السلطة يومها كانوا من ضباط الجيش فقد كانوا يرون الاعتراض على سياساتهم تجريحا لهم , وينظرون الى انتقادات الآخرين لأفعالهم على انها إهانة موجهة لشخصهم , "وما أشبه الليلة بالبارحة", فامتلأت السجون , وكبلت الحريات, ومضت القمعيات الامنية تعصف بكل رأي سياسي من اي طرف كان.
وكان للشيخ نصيب كبير من هذا كله, فاعتقل مدة كبيرة أربت على عشر عمره, ذاق خلالها صنوف العذاب, وألوان الهوان تحت سياط المجرمين في " السجن الحربي" وأشقائه: الطور, وأبي زعبل وغيرها.
يقول الشيخ: اعتقلت أربع مرات: الأولى في السنة الثالثة من المرحلة الثانوية, وكانت على إثر خطبة لمهاجمة الثورة بمسجد " الزاوية الخضراء " بطنطا ـ عند مزلقان شبين ـ, وكانت مدتها ثلاثة عشر يوما, وكانت في سنة 1954 م,
والثاني في أغسطس عام 1955 م, وأفرج عني في إبريل عام 1956 م وكانت مدة الاعتقال سنة ونصفا, لكني لم أقض منها إلا تسعة أشهر فقط إذ قضيت الباقي هاربا في طنطا!! حتى قبض علي لأقضي المدة الباقية!
والثالث كان في سنة 1965 م من أغسطس 1965/8/16 م إلى 1971/10/6 م ( ست سنوات, وشهر, وعشرون يوما من أيام الظلم والابتلاء ) وقد أخذت الثانوية الأزهرية نظام الخمس سنوات من داخل المعتقل, وهذا تاريخي وأنا أحفظه جيدا, وتلك أحداث من تاريخي لا تنسى!!!
والاعتقال الرابع طال أمده, وكثرت منحه, وأفاض الله تعالى علينا ـ نحن الإخوان ـ من فضله وعطاياه مالا يحصى " والله ذو الفضل العظيم ".
>>> 
فكان ربك يجري علينا موافقات من عنده تلين لها القلوب القاسية, وتثبت قلوب المضطربين؛ إذ يستغني مريض السكر, ومريض القلب عن دوائه المعروف ـ لدى الأطباء ـ بالأسبرين, فيتناوله الواحد من إخواننا ويتجرع جرعات الماء بعده, فكأنه أخذ الدواء المناسب للداء فيسكن عنه الألم, ولا يحتاج إليه إلا الوقت الذي بعده, ويكون الحال نفسه (قرص أسبرين), وكذا كان يفعل إخواننا من مرضى الكبد وغيره!!!, وذلك كله بعد أن منع الطغاة دخول الدواء إلينا فمن لم يمت بالتعذيب, مات بالمرض!!
كان الدكتور أحمد الملط ـ وكان جراحا كبيرا وأيضًا كان وكيلا لجماعة الإخوان المسلمين ـ (رحمه الله تعالى) يعمل لأخ لنا عملية الزائدة, وكانت الأدوات المستعملة في استئصالها نصف موس " مشرط ", وفتلة من حصيرة!!
وأنا شخصيا أجريت لي عملية جراحية من أخينا الدكتور عبد القادر الحسيني ـ رحمه الله تعالى ـ بمستشفى " مزرعة طرة ", وكانت عملية " بواسير ". ثم تنهد الشيخ وأحسست أنه استعبر باكيا وقال: لقد لقينا الهوان على أيدي أدعياء الثورة والحرية الذين ادعوا أنهم سيصنعون الإنسان المصري سنة 1968 م.
ثم يبتسم كأنه تذكر شيئا يضحك في هذا الجو المظلم المعتم
يقول: وبعد انتهاء العملية, وفي أول مرة للمتابعة حضر ( د / الحسيني ) لينظر الحالة فتكلمت معه وكان مما قال لي: كنت خائفاً عليك أثناء إجراء العملية رغم أنها بسيطة ولكن "قلبك ضعيف"!!
وقبل أن يكمل الطبيب الدكتور عبد القادر كلامه, انتفض الشيخ المريض بكل عزمه كما لو أن صخرة وقعت عليه, وهب يصيح: أنا لست ضعيفاً, وليس قلبي كذلك, إنما أنا قوي بالله, قوي بالله, وإنما جاءني الضعف, ودب ّ إليَّ الوهن من جراء ما لقينا من هذه الفئة الباغية (جمال وناصروه), وظللت أتحدث بصوت متهدج, وبنبرة مرتفعة, وعصبية ظاهرة, والدكتور عبد القادر يضحك, وينتظرني إلى أن انتهيت, فقال: يا أخي, أنا لا أقصد ذلك إطلاقاً, ثم ابتسم فابتسمت ثم ضحكنا"!!
ومن يعرف الشيخ يستطيع أن يتخيل الموقف جيدا, وهي عزة نفس يعرفها فيه كل من اقترب منه, ولي معه موقف قريب من هذا , إذ كنت أبيت مع الشيخ في ليلة من الليالي في مستشفى "قطور", وعد ما انتهيت من تسجيل جزء من هذه الذكريات في تلك الليلة قال لي الشيخ: ( آه تعبت, نكمل غداً ـ إن شاء الله ـ لكن فقط تذكر أين وقفنا), فذهبت فاطفأت المصباح, ولكن بقيت الحجرة مضاءة بعامل النور الخارجي, فقلت للشيخ: أذهب لأطفئه, فقال " دعه يأتينا ببعض الضوء, فقلت (وأنا على نياتي): حسبتك تحب الظلام!! ـ وأنا أعني النوم في الظلمة! فنهض الشيخ صائحا: لا, أنا لا أحب الظلام, بل أنا أحب النور, وأحبّ شيء إلىَّ النور, وأنا عشت طوال عمري أحارب الظلام وصانعيه!
عاش الشيخ عمره مجاهدا ً من أجل فكرة اعتنقها, ومضى عليها ولأجلها قدماً لا يلوي على شيْ, ولا يوقفه دونها أمر ذو خظر.
يقول: كان لابد علينا من دفع " ضريبة الالتزام ", وهذا ابتلاء من الله, وقد صبرنا والحمد لله ؛ لقد كان كل شيء حولنا يبعث فينا العزيمة والإصرار,
>>>>>> 
ويصف الشيخ السجن لأنه كان ـ في سجن " مزرعة طرة " ـ العنبر طوله 2 × عرض " 6 " أمتار, وكان يضم من النزلاء ( 15 ) ـ خمسة عشر نزيلا ـ, ولك أن تتصور كيف تكون حياة هؤلاء بداخلة.!!
ومن وحي هذ الزنزانة كتب الشيخ وهو في المعتقل قصيدة اسمها: "حقائق " يقول فيها:
هل غير السجن شيئاً من أمانينا؟! أم أخمد الظلم أنفاس المحبينا؟!
أنفاسنا صعدت تشكو لبارئها ظلماً وعسفاً وطغياناً بوادينا
ما ضرَّنا أن تلظينا بنارهم عناية الله ترعانا وتحمينا
هذا النبي وقد آذوه, قد ظهرت بشائر الحق في الظلمات تهدينا
فما استكان وما لانت عزيمته ............................................
سلوا الصحابة كم ذاقوا وكم صبروا على الهوان فما باتوا مساكينا
سلوا بلالاً وعماراً وأسرته سلوا ابن مسعودٍ عن نفس المعادينا
كم قيدوهم بأغلال مثقلة ببيد مكة في البيدا مهانينا
حتى إذا فتحوا دكت عزائم من أمسوا على الكفر عبادا مصلينا
وعز بالله من به قد اعتصموا وزلزلوا الكفر فرساناً ميامينا
ونحن في الله ما عشنا فلا فزع فالحق درع من الطغيان يحمينا
رسولنا قدوة عليا بسيرته وصحبه أنجم لله بادينا
فليفتحوا السِّجن ما شاءوا وما قدروا فالسجن خلوتنا والسجن نادينا
وليذكر الشعب أنا في عهودهم نقضي الحياة بلا ذنب مساجينا
والله أكبر تدوي عي سجونهم ندق بنيانهم والله يعلينا!
>>>>> 
قضى الشيخ ايام المعتقل مع أعلام أفاضل وعلماء كبار وسجل معهم مواقف مشتركة, تدل على قربه منهم وحفاوتهم به, ومن طريف ما رواه الشيخ لي ما كان من ثناء الأستاذ "محمد قطب" ـ أخو الشهيد " سيد قطب ـ عليه ومدحه اياه حتى انه قال في الشيخ صقر شعرا في قصيدة كاملة منها هذان البيتان:
وكلٌّ قد تقاعس غير أني أرى صقراً براحتِه يجود
ويشرب من سبيل الصخر ناسٌ من الإخوان حيناً واليهود
والقصة أن فضيلة الشيخ صقر ـ رحمه الله ـ قد صنع لزملائه في السجن" قلل للماء " كانت عبارة عن زجاجات يلف عليها قماش ويملؤها بالماء فيشرب منه العطشان ماءً بارداً زلالاً فلما رأى الأستاذ قطب ما صنع الشيخ صقر انطلق على الفور يقول:
يفصَّل الشيخ فستاناً لقلته فاعجب لها قلة تكسي بفستان
تبرد الماء عذبا من سخانته يسعى إليها لهيفاً كل ظمآن
والشيخ صقر يحوذ الشكر مجتمعاً من كل ذي ظمأٍ هود وإخوان!!
وكان معنا يهود في المعتقل فما كنت ابخل عليهم بالشرب من قللي ماء باردا.
يقول الشيخ: ومن نبل نفسه "الاستاذ محمد قطب" أن قال لي وأنا أمتحن للثانوية الأزهرية بالمعتقل: " لست أنت الذي سيمتحن, بل السبيل هو الذي سيمتحن, وبعد علمه بنبأ نجاحي, وزع ثلاثة أيام شربات على أهل المعتقل!!
>>>>>>>>>> 
رغم هذه الحادثات الاليمة التي مرت بالشيخ فقد كان رحمه الله ذا روح مرحة مداعبة باسمة تراه ضحوك الوجه, مشرق المحيّا, فلم تطغ على هذه الروح ومرحها كآبة الحادثات الأليمة على كثرتها وشدَّتها, وإن العجب لا ينقضي من هذه الشخصية, كيف يجتمع في قلبها كل هذه الدعابات والمآسي في آن؟!
وتسمع ضحكته المجلجلة!! فتأخذك الدهشة: أنى لهذا القلب الجريح المكلوم الذي أرهقته الأيام والليالي على مر السنين, وناء عليه الدهر بكلكله, أن تسكن في أغواره وأعماق قلبه هذه الضحكات, وهذه النفس الضحوك المبسام التي نضحت على الوجه فكسته بسمة وإشراقاً كانتا تعلوانه في كل أحاسيسه حتى لتحسب أنها ما رأت سوءاً في حياتها قط!!
فإذا استمعت إليه يروي شيئا من ذكرياته ومآسيه, قلت: كيف يخرج هذا الفم الودود, والوجه الباسم هذه الكلمات التي لها مر العلقم؟!
نعم ان للحق لذة ومتعة تفوقان كل المرارات, وتتغلبان على شتى العراقيل والعقبات, وتجوزان بالمناضل كل العوائق والسدود التي تقف في طريقه, وتحاول أن تصده عن غايته, وترده عن هدفه!!
لكن ينبغي ان يكون صاحب الحق كبير القلب, قوي النفس, يحمل في قلبه حزن الدنيا وآلامها من خوفه وقلقه على الدعوة ومسيرتها, لكنه يرسل بأحزانه تلك إلى الأعماق هنالك في أغوار النفس, حيث لا يطلع عليها أحد, ولا يظهر إلا السرور على سطح النفس وواجهتها, فلا يلقي الناس منه إلا بشاشة الوجه, وبهجة اللقاء, وعذوبة الحديث, وصلى الله على محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – الذي ما رأى قط عابسا رغم ما كان يحمله من أحزان تنوء بها الشمَّة الراسيات!!
كذلك كنت تسمع الشيخ وتراه لا يرى حرجا ان يقول لك نكتة نعم نكتة بل نكت وكم سمعت منه:
* دخل أحد اللصوص بيت رجل لا يتكلم الا باللغة العربية, فلما أحسَّ اللص بخطواته همّ بالانصراف والهروب فإذا بصاحب البيت يسأله: أنت لص أم ماذا؟ فقال له اللص: ( أنا أم ما ذا بسّ سبني!!)
* حضر الابن من المدرسة وقد تعلم القراءة والكتابة, وإذا بخطاب يجيء لأبيه فقال له الولد: أتلوه عليك يا أبي؟ فلم يفهم الوالد قصده, فقال له رداً على سؤاله: اِتْلِهِ على أمك!!!
* وكم كان بينه وبين جدي الحاج عبد الرحيم السقعان – رحمه الله رحمة واسعة - من مداعبات لا تنتهي وكان رفيقه في الجد والعمل خلال ايامه الاخيرة رحم الله الجميع
* ولا زلت اتصوره يوما من الايام كنت اجلس معه فأشار الشيخ إلى إصبع موز وقال لي هو من بدري هنا!، فقلت: كله فضيلتك, فقال: الحمد لله, شبعت, فقلت: وأنا الحمد لله أكلت, فقال مداعبا: والحمدلله هو هيبوظ!!
>>>>> 
ليتعلم اخواننا ان الالتزام ليس تقطيب الوجه وتكشيره ولا العبوس في وجه مقصر وتكديره, فـ"تبسمك في وجه أخيك صدقة"
وفي الحلقة القادمة بمشيئة الله نكمل المسيرة في رحاب الشيخ.

(اليوم السادس)
عاش الشيخ محمد صقر رحمه الله حياة حافلة بالأحداث المهمة التي لا يصادفك فيها ما يخص شخصه منفردا الا قليلا , كان شخصا عمليا اجتماعيا نافعا لأهله وبلده في كل الاوقات, وريثما يستريح من عناء المعتقل يبدأ في عمل آخر يعيده اليه, قضي في المرة الاخيرة قرابة السبع سنوات.
يقول الشيخ: بعد أن خرجت من المعتقل, ورجعت إلى بيتنا, كان أول ما يقلقني: كيف ألقى أمي بعد هذا الوقت من الفراق والعمر المديد؟, وكنت أخاف أن تفجأ بوجودي فيحدث لها شيء, فهداني الله تعالى إلى حيلة لطيفة, وذلك أني أتيت على بيتنا ـ وكانت أمي لا تفتح البيت لأحد, بل كانت ترد من وراء الباب ـ طرقت الباب, فقالت: من؟ فقلت - مغيرا صوتي ـ: محمد موجود, أنا زميل له؟, فقالت: لا, ابني محمد في السجن!!, فتركتها ومضيت, ثم جئت بعد ساعة أو يزيد, ذهبت خلالها إلى المسجد, وكان ذلك في " المحلة ", ثم رجعت فطرقت الباب, فردت علي, فقلت لها: يا خالة, يقال إنهم أفرجوا عن الإخوان المسلمين, وخرجوا من السجن, ويمكن محمد خرج, فسمعتها تدعو الله تعالى وبعد ساعة عدت إليها فقلت: أنا محمد, وهكذا هيأتها لمقابلتي!!
وكانت فرحتها بي كبيرة, لا توصف, وعدت إلى حضن أمي من جديد لكي أبدأ سياحتي بين " المحلة الكبرى " و" نشيل " فقد كانت الأسرة كلها تقيم في المحلة " أما أنا فكنت " سياحا " بين " المحلة " و " نشيل " فقد كنت أقيم بالمحلة أياما وبنشيل مثلها.
>>>>>>> 
ولما خرجت من المعتقل, وعدت إلى البلد وجدت أبنائي الذين كنت أعطيهم دروسا في البلد قد شقوا طريقهم, ودخلوا مجالات عديدة حتى إن طول البعد عنهم قد أنساني ملامح بعضهم!
أذكر أنني لقيت منهم " الاستاذ / شوقي العرابي السقعان" -رحمه الله- في الطريق, فلم أعرفه, ولقيني " الاستاذ / محمد الكيلاني شلبي " ذاهبا ليقدم أوراقه إلى " الكلية الحربية " فسألته: إلى أين؟ فقال لي: إلى " الكلية الحربية " لأقدم أوراق التحاقي بها! فقلت له: " يا أخي حربية إيه وبتاع إيه, هو فيه أحسن من رسالة التعليم ودعوت الله ـ تعالى ـ ألا يقبل, وقد كان, ثم عاد وها هو ذا في سلك ورثة الأنبياء!! علم اجيالا, حفظه الله
وعدت إلى البلد لتدريس " الدروس الخصوصية " لأولاد البلد بمشورة الحاج فؤاد شريف ـ رحمه الله ـ, وظللت زمنا ثم تركتها ثانية عائدا إلى المحلة.
>>>>>>>>> 
عودة للعمل الخيري "على أشواق وأشواك!!"
وبعد أن استقر بي المقام بين البلد والمحلة, كنت أردت أن أقوم بنشاط في البلد فاقترحت على مجموعة اخترتها من بين تلامذتي وإخواني أن نعمل "مجلة ثقافية", فكان أن اخترت الاساتذة بدوي راضي, وعدلي حسين, ومحمد الأعصر, ومحمد جودة, وبيومي العاصي, وإبراهيم أحمد شلبي, وغيرهم, -رحم الله من توفاه وحفظ من ابقاه- وكنت أريد أن أسن لهم الطريق, وأتركهم في البلد لأني لست موجودا بها!
وكان إشرافها لـ ( عدلي, جودة ), وقد قسم أبوابها ( بدوي ), وكانت المحاضرات مسندة لـ (إبراهيم احمد شلبي )
وكان من أمرها ما كان وشاء الله تعالى أن نفترق, كل في طريق, وهنا تدخلت سائلا: لهذا يحترمك الاستاذ عدلي, ويقدرك -على الرغم من اختلاف المواقع؟!
فأجاب الشيخ: الدروس التي كنت أعطيها لأبناء القرية كانت مجانية, وقد حفظ هو ذلك, حتى انه ذكرني به بعد ذلك عندما صار محافظا إذ قال لي يوما: (إنت كنت بتعلمنا):
هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الجحافل آسـاده ودكوا به دولة الباطل!
فقلت: ( إنت فاكر أهوه ) فقال: لو عرفوني بهذه الحكاية, لما صرت محافظا قلت: بل هو قدر الله تعالى مهما كاد الكائدون!!
وأذكر اني دعيت لحضور حفل افتتاح الوحدة المحلية " بإبشواي الملق " وكان سيحضرها محافظ (القليوبية) الأستاذ ( عدلي حسين ) يومئذٍ, مع محافظ الغربية, فلما أبلغوني الدعوة, قال: أنا لا أجيد التصفيق, التصفيق هذا لرقيقي الأكفّ, وإن حضرت سأهين محافظ الغربية بسبب اهماله لبلدنا, فأبلغوا عدلي ذلك عني , وحضرت فتكلمت عن طلبات البلدين " نشيل وإبشواي " من محافظهما وختمت كلامي بجملة: أنا أقول كلاماً للتاريخ, وأعطي كل واحد حقه, وأنا لا يهمني الكرسي ولا الجالس عليه, وإنما تهمني كرامتي التي هي ليست ملكاً لي, ولكنها ملك لمحافظتي كلها فقام " رئيس المجلس المحليّ "الشافعيّ" ليقاطعني فإذا الأستاذ / عدلي يقول له: ( الشيخ يتكلم, وإذا تكلم الشيخ فلننصت جميعاً )!!
فكانت هذه الواقعة دليلاً على صدقه ووفائه لأستاذه, فلما فرغنا وأردنا أن نخرج, جاء خلفنا يودعنا, وكان يمشي معنا ليودعنا , فإذا بالشافعيّ يقول له: ( لا يا باشا دا كتير!! ) فقال عدلي بأدب جمّ: ( لا, لآخر الحجرة, الشيخ علمني هذا ) ثم قال لمن حوله: "فضيلة الشيخ هو الذي عمل كل شيء في بلدنا, ويعتبر معلم البلدة جميعا وأسرته وبيته كانوا بيت علم"!!
يقول الشيخ: وهذا كان من كريم خلقه وتواضعه، وإلا فهو كبير مليء به كرسيه, ويملأ مكانه, وأنا لما حدث بينه وبين " كمال الشاذلي" ما حدث, استجدعته لأنه أثبت رجولته, وأحرج هذا الفاسد, وقد أكبرته, برغم أنني لما علمت أنه أقام مؤتمراً صحفياً, امتنعت عن الذهاب إليه في المحافظة خوفاً عليه من أن تستغل زيارتي له ضده, وأنا لا أحب أن يؤذى أحد بسببي!
>>>>>>>>> 
وقد أثبت لي وعده في كثير من مواقفه, فإنه لما رشح لمنصب " المحافظ ", ولقيته هنأته كثيراً, ثم قلت له: أنت قادم على امتحان كبير في المحافظة, وهو امتحان رباني, والمهم أن تنجح في الامتحان, لأنه امتحان الله, واعلم أن الله ـ تعالى ـ قد استرعاك عدداً من عباده سيوليك الله شئونهم, فاتق الله فيهم, ولا يطالبنك الله غداً بشيءٍ, فردّ عليَّ بجواب الواثق: " إن شاء الله سترى, ومن الغد "
وأشهد أنه كان ممتازاً, وسيظل إن شاء الله كذلك, والايام كفيلة باطهار حقائق الناس
>>>>>>>>>> 
قضيت فترة بين البلد وبين " المحلة الكبرى " ثم بدا لي أن أتقدم بأوراقي إلى وزارة الأوقاف لشغل وظيفة " إمام " بأحد المساجد, فذهبت إلى الأستاذ الشيخ / محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ, وكان يشغل حينذاك منصب " مدير عام الدعوة بوزارة الأوقاف " فلما ذهبت إليه رحب بي ترحيبا شديدا, وأخذ بيدي إلى وكيل الوزارة لشئون البر والخيرات, وصرف لي " مساعدة ", ووعدني أن يعينني في أحد المساجد, وبالفعل أعطاني خطابا لوكيل وزارة الأوقاف بالغربية ليعمل لي اللازم!
يقول الشيخ واصفا كرم فضيلة الشيخ " الغزالي " معه: ذهبت إلى الشيخ, وكان مكتبه على يسار الداخل إلى الوزارة, فرحب بي ترحيبا شديدا, وقال لي: مكتبي هذا تدخله بدون استئذان, ولما دخل بي على وكيل الوزارة قال له: هذا الأستاذ ظل في المعتقل ثلاثة وثمانين شهرا يصطلي بظلم ابن عبد الناصر, ثم توجه إلي قائلا: أقعد يا شيخ, قبل أن يجلس هو أو الوكيل ـ رحمهما الله تعالى ـ!!!
وكنت قد خطبت الجمعة في " إمبابة " مقابل ثلاثة جنيهات ( 3 ), وظللنا سبعة أشهر أويزيد لا نقبض شيئا, فتقدمت بطلب إلى الشيخ الغزالي فأخذ الطلب, وحوله إلى أوقاف الجيزة فصرفت لنا أموالنا, وحصلت على ( 31 ) واحد وثلاثين جنيها, يعني زيادة عما كان لي.
>>>>>>>>> 
السيد شرشر!
ولهذه الزيادة قصة طريفة لي, وذلك أني لما ذهبت بالطلب إلى الشيخ الغزالي, وحدثته عن امتناع المديرية بالجيزة عن صرف الراتب لنا عن الخطبة, وكان المسئول بها يدعى " السيد شرشر", فقلت للشيخ: إن السيد شر شر قد حدد لي أنا والعامل ( 3 ) ثلاثة جنيهات للخطبة, ومع ذلك بخلوا بها, فلم يتمالك الشيخ نفسه من الضحك لقولي ( شر شر )!! ؛ وذهب معي إلى فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود, وكان هذا العصر هو العصر الذهبي للشيخ الغزالي, وكان الدكتور عبد الحليم يرى في الغزالي أنه عالم ليس كمثله أحد, فكان يلبي له كل طلباته, وعلى الرحب والسعة لقينا الدكتور عبد الحليم ثم أصدر " إشارة فورية " إلى كل المديريات بجميع المحافظات بالبت في موضوع " الإعانة " بل ورفعها إلى ( 5 ) خمسة جنيهات: (3) ثلاثة للإمام, ( 2 ) اثنان للعامل, وقد أخذت ما كان لي بأثر رجعي, وكانت هذه قصة الزيادة معي الطريفة, وكانت هذه بعض حسنات الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ!!
وفي مسجد " إمبابة " انهال علي الأهالي بالدروس والخيرات, غير أني كنت أحب المقام ببلدي, ولا أحب أن أفارقها, فذهبت إلى الوزارة أطلب النقل, ولم أشأ أن أذهب إلى الشيخ الغزالي في مكتبه رغم أنه كان بالوزارة, وكنت إذا ذهبت إليها لا بد لي أن أمر على مكتبه بحكم الطريق لأنني كنت أرى الشيخ, يحتفي بي, ويسعى معي لقضاء حاجاتي حتى تقضى, وكنت أرى أن في ذلك تعطيلا للشيخ عن أعماله, وأقطع عليه خلوته وعبادته إذ كان يقضي وقته كله في أعمال المسلمين فاعتبرت ما أقطعه منه اقتطاعا لحق جميع المسلمين, فكنت لا أدخل عليه لهذا الأمر!! ؛ وكأن الحاجب " الساعي " الذي كان على بابه, حدثه بأني آتي إلى الوزارة, ولا أمر عليه, وكأنه أوصاه إذا رآني أن يأتي بي إليه!! ؛ فكنت يوما في قضاء عمل بالوزارة فإذا الساعي ينادي علي ويقول ـ وكان سودانيا ـ ( يا شيخة يا شيخة, إنت كلمي الشيخة؛ الشيخة زعلانة, إنت كلمي الشيخة ؛ الشيخة زعلانة), فدخلت عليه.
يقول: وكان الشيخ الغزالي يتلو القرآن الكريم بصوت خاشع ضارع فإذا سمعته تحسب أن أمواج البحر تتدافع مع قراءته من بديع صوته, وجيشان عاطفته, وحضور قلبه, وصفاء نفسه, وتوقد بصيرته!!
فلما رآني, قال لي: يا أخي, سبق لي ان قلت لك: مكتبي هذا مفتوح لك دائما تدخله بدون استئذان, ولا تحرمنا أن تأتينا فتزورنا..., فقلت ـ مبديا سبب انقطاعي ـ: لم أرد أن أقطع عليك عبادتك وخلوتك لأمور المسلمين!!
ولما لم يقض طلبي من الوزارة للتعقيدات الإدارية المعروفة ( ويوم الحكومة بسنة, فما بالك بوزارة الأوجاع؟! ), ذهبت إلى الشيخ فأعطاني خطابا ـ كما قلت قبل ذلك ـ لوكيل وزارة الغربية وقتها, وكان أسمه الشيخ عبد الله عامر, وأخذت الخطاب, وذهبت به إلى الشيخ عبد الله عامر! -رحمه الله وهو من العامرية المحلة الكبرى-
وكان هذا الشيخ معروفا بضيق اليد, ولا يخدم مخلوقا, ولكنه كان نظيف اليد, طاهر الذيل, لا يركب سيارة الوزارة إلا فيما يخصها من أعمال, ويعتز بذلك ويقول: يدي أرفع من رءوسكم, وكان له عمامة وكاكولة لا يغيرهما أبداً حتى قيل فيهما: هاتان العمامة والكاكولة فيهما صفتان من صفات الله ـ تعالى ـ وهما القدم والبقاء ـ حاشا لله ـ!, فلما أعطيته خطاب الشيخ الغزالي وضعه على رأس عمامته!
وكان من أمر النقل أن عينت بمسجد سيدي " عبد المجيد = الزاوية" بعد أن جرى بيني وبين فضيلة الشيخ عبد الله عامر هذا الحوار الطريف: في بلدكم مسجدان سيضمان للأوقاف " مسجد العمري= الكبير ", " مسجد سيدي عبد المجيد " فاختر أيهما شئت! فقلت: أنا أختار مسجد " عبد المجيد", فقال لي: إن مسجد " عبد المجيد " صغير, ونحن نريد الفائدة للناس, فعليك بالعمري فإن جمهوره كبير, فقلت: أنا يستوي عندي " العمري ", " زاوية مخلص "! فقال: نحن نريد الفائدة, فقلت: هل ستفرق بين " مسجد العمري ", " مسجد زاوية مخلص " عندكم, يعني هل ستغير شيئاً من " راتبي "؟, فقال: لا, قلت: خلاص سواء "زاوية مخلص " أو " المسجد العمري " فلن يهم! فقال: إننا نريد الفائدة للناس لا الفائدة التي ستعود عليك, وأكبر عدد سوف يستمع لك, والمسجد ليس به إمام, فقلت: بل فيه إمام, فيه الشيخ حامد المصري, فقال: هذا ليس معه مؤهل, فقلت: لا, بل معه " الابتدائية " فقال: أنت معك " الثانوية "!! فقلت: إن الله لم يعطني " المؤهل " لأحارب به خلق الله في أرزاقهم!, وقلت بصراحة: إن الشيخ حامد ابن الشيخ محمد المصري, وهذا الرجل نعتبره أستاذنا, وقد كان إمام " المسجد العمري ", وهو يحب أن يرى ابنه في موضعه, وأنا لا أحب أن أفعل ما يسيء الرجل.
>>>>>>>>>>> 
" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم "!!
تقدمت بأقدامي إلى " كلية الدرسات الإسلامية ", وكان لها امتحان قبول, حدثت لي طرفة طيبة, إذ جلست أمام لجنة امتحان مع مجموعة من الطلبة المتقدمين, وكانوا يتحدثون عن الشيخين الممتحنين باللجنة, وعن صعوبة الامتحان أمامهما خاصة مع مايذكر من شدة أحدهما شدة لا توصف, وقد فرقوا من الدخول, وتدافعوا أيهم يدخل أولاً فيختبر لهم الشيوخ!
ولم يعجبني ذلك الموقف فدخلت مباشرة إلى لجنة الإمتحان متوكلاً على الله ـ عز وجل ـ أن يعينني في الامتحان, وكان أن عقدت الدهشة لسانيهما وعلت وجهيهما لجرأتي, إذ ظلا مدةً من بدء الامتحان فلم يدخل عليهما أحد!!
وكان أحد الشيخين يعرفني وأعرفه, ولكنه تظاهر بأنه يجهلني, خوفاً من أن يزيد الآخر في إصراره فيشدِّد عليّ, غير أن التيسير أتى من الله ـ تعالى ـ وحده, فكان الامتحان أفضل ما يكون!!
سألني الشيخ: ماذا تحفظ من القرآن الكريم؟
فقلت ( متعجباً ): أحفظ القرآن كله!, ثم سألني عدة أسئلة وفقت فيها, ثم سألني في " النحو والصرف والبلاغة والأدب وغيرهم, ثم دار حوار وحديث دافيء عن " الإخوان المسلمون " ودعوتهم, وحقيقة المعتقلات, وكان مفتاحه أنني قلت: أنا تأخرت عن تعليمي 17 سبع عشرة سنة, وأبنائي الآن تخرجوا في كليات مختلفة, فعجب لذلك الشيخ وسألني: لماذا؟ قلت لأني من الإخوان المسلمين.... وفتحتا حديثا لمدة ساعة وخرجت لأرى الغربة على وجوه الطلاب لهذه المدة الطويلة التي قضيتها داخل اللجنة, وسألوني: لماذا تأخرت داخل اللجنة كل هذه المدة؟ فابتسمت وقلت: طلعنا معرفة!!, ويسَّر الله لي بذلك, ودخلت " كلية الدراسات الإسلامية والعربية ", وأكملت الدراسة بها, وتخرجت فيها, والحمد لله رب العالمين, وحصلت على " الإجازة العالية "!!!
>>>>>>>>>>>>> 
وبعد التخرج في كلية الدراسات, جاء تعييني بمعهد " إبشواي الملق ", وقد قمت هناك ـ أثناء وجودي بالمعهد ـ بإصلاح خط المياه ودورات المعهد.... إلخ
ثم نقلت إلى "معهد فتيات المحلة الكبرى ", وكنت تزوجت في هذه الفترة , وأنجبت ابنتي الوحيدة "سمية" التي كبرت وشبت حتى كنت احيانا أصحبها معي الى المعهد
وفي هذه الفترة جاءني " عقد اعارة الى بلاد اليمن" وهي مفاجأة من العيار الثقيل!!
وفي الحلقة القادمة بمشيئة الله نكمل المسيرة في رحاب الشيخ.


(اليوم السابع)
خفقات قلب: معار لليمن السعيد! وزائر للبيت العتيق!
إنها رحلة عميقة الدلالة بالغة العظة, خاضها فضيلة الشيخ وهو خلو من كل الأسباب إلا من سلاح " التفويض لله وإجراءات السفر " مع قلب جسور, ولسان جريء, نفس مفعمة بكأس الإيمان وكنوز اليقين في الله, فمن يقرأ هذه الصفحات يكن عل يقين تام بأن الشيخ يلقي بنفسه في غيابات السجن وأهوال السفر غير أن " العناية الإلهية ترعاه بركنها الذي لا يضام, وعينها التي لا تنام!!
حقا ان ربنا " لا تأخذه سنة ولا نوم "
وحقاً قول القائل:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالحوادث كلهن أمان!
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: "تبدأ خطا هذه الرحلة عميقة الأثر والدروس في الفترة من عام 1979 م إلى عام 1981 م حيث جاءني " عقد السفر " على يد الأخ الأستاذ " علي لبن " ـ حفظه الله ورعاه ـ إذ لقيني في مجاضرة بدار الإخوان المسلمين بميدان الساعة بطنطا وكان المحاضر فيها الأستاذ المرشد/ عمر التلمساني ـ رحمه الله ـ وقال لي: ألا تريد الذهاب إلى اليمن؟!
>>>>>>>
وماذ أفعل باليمن؟!
فقلت وماذ أفعل باليمن؟! إنها بلاد فقيرة, ولكن تبادر إلى ذهني " فريضة الحج" ؛ إذ كان عن طريق اليمن أسهل وأيسر, وكان أن قلت له: أنا موافق, وبعثت اوراقي ومعها تزكية من علماء كبار, وكان المسئول عن السفر هو الأستاذ / زكريا التوابتي رئيس الإخوان باليمن الشقيق ـ فذهبنا لمقابلته, وكان كلما نظر في الطلبات سأل عن الشيخ " محمد صقر " الذي حظى بتزكية هؤلاء العلماء الكبار, فقلت: أنا, فقال لي: " أنت رجل عجوز ", فقلت له: تجيء لتسابقني؟!, فقال: إنها الرحلة إلى اليمن, تحتاج إلى رجل عنده قوة ونشاط, فقلت: انا لها, وكان أن سافرت إلى اليمن, وقلت: الله ـ وحده ـ هو المعين, وقضيت بها سنة واحدة, شاء الله لي أن أؤدي فيها فريضة الحج, ولهذه قصة طويلة وعجيبة وطريفة!
>>>>>>>>>.
وإذ العناية لاحظتك عيونها!!!
>>>>>>>>> 
كان لا ينال فرصة الحج أي مبعوث في اليمن أو غيرها إلا في السنة الرابعة من السفر ولكن صممت ـ وكلي ثقة بالله بأن أؤدي الفريضة في أول نزولي العام الأول!
ولما وصلنا إلى اليمن, صافحني الأستاذ " زكريا " ـ رحمه الله ـ, وقال لي مداعباً: مبارك عليك " حجة " وهي محافظة من محافظات اليمن!! فقلت: أنا أطمع في الحج وليس في " حجة "!!، فقال لي: ليس السنة!! فقلت: لا ـ إن شاء الله ـ السنة هذه!!, فقال لي: مستحيل, هم لا يسمحون لأحد أن يذهب إلى الحج إلا بعد السنة الرابعة , وهذه قوانين صارمة تنفذ بدقة! فقلت غاضباً: أأنتم الذين ستحجون أم أنا؟! ـ وكان كلام الواثق من أن مشيئة الله لن تمنعه من أداء الفريضة, فأنا ما خرجت من بلدي إلى هذه البلاد إلا لقصد الحج ـ!!
استعبطت!!
ولما نزلنا في أماكن السكن, بتنا ليلتنا, وعلمت في الصباح أن إخوة لنا ذهبوا إلى " دار رئاسة المعاهد العلمية " ؛ ليتقدموا بأوراقهم إلى الدار للسماح لهم بأداء فريضة الحج, فإنهم قد استوفوا مدة الأربع سنوات المطلوبة, وكتبت طلباً أنا أيضاً, واستعبطت وذهبت معهم لتقديمه إلى " دار رئاسة المعاهد "!!
ووقفت معهم في "طابور" التقديم, ولما فرغوا وجاء دوري, إذا بالمسئول ينظر في أوراقي وينظر إليَّ, فقلت مالك؟! خلص لي ورقي فقال: لابد من مرور أربع سنوات على بعثتك هنا حتى يسمح لك بالحج وأنت لتوك واصل, ولم تثبت حتى في كشوف المبعوثين!!
ومع ذلك تريد أن تحج!!, فقلت له: استمع أنا رجل شيبة ولم أحج, ولقد جئت لغاية واحدة وهي أداء فريضة الحج, فاما أن تسمحوا لي, وإلا فاختموا لي جوازي لأعود من حيث أتيت فأرجع إلى بلدي!
فقال لي: فثلاثة ـ يعني أصبر ثلاثة أعوام ـ فقلت له: إن كنت تضمن لي عمري أصبر, فقال: سنتين, فقلت: اضمن أنت, وأنا ليس عندي مانع!, فقال لي: أنت ليس معك أموال, ولم تقبض شيئاً, والرحلة إلى الحج تتكلف الكثير!!
فقلت: يا أخي, لما أطلب منكم مالاً لا تعطوني!!, فوافق مرغماً حتى يصرفني, وفي اعتقاده أني عما قريب سأصدم بشيء مستقبلاً بعيداً عنهم فيصيبني اليأس وأرجع!!
وكانت تذكرة السفر للطيران من اليمن إلى السعودية في هذه الأثناء بـ ( 170 ) مئة وسبعين جنيهاً, ولم أكن أعددت لهذا عدته, ولم أخطط لها في شيءٍ ولا أعددت ملابس الإحرام, ولا غير ذلك مما يلزم للحج من أموال, وكان لا يسمح لغير اليمنيين بالحج عن طريق البر, وكانت معقَّدة من كل الجوانب, ولكني كنت معتمداً في حلها على رب العالمين, وعزمت على السير إلى نهاية الطريق, وأخذت أوراقي وذهبت إلى السفارة السعودية, لختم أوراقي وإعداد ما يلزم منها لسفري!!
وكنت سابك الدور ( قوي مبعوث بأة )!!
وهناك دار حوار بيني وبين الموظف, وكنت حريصاً على أن أكسب مودته, لئلا يعرقل سفري بالتدقيق في الأوراق!
ودخلت عليه وهو جالس على مكتبه, وكنت لابساً زي َّ الأزهر كاملاً: الجبة, والقفطان والكاكولا والعمامة!, قلت "أحمد الجوهري": والعصا؟! فابتسم وقال: والعصا طبعاً!!, وكنت سابك الدور (قوي مبعوث بأة!) فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, فرد علي السلام, فقلت: الشيخ محمد صقر من علماء مصر, فرحب بي الرجل, ودعاني للجلوس, وقال إننا نجلّ علماء الأزهر رغم ما بيننا وبين الحكومة المصرية من خلافات!
قلت: طالما سمعنا ذلك, وكنا نعتقد أن الخلافات القائمة بين مصر والحكومات العربية هي خصومات بين الحكومات فقط, ولكن الشعوب جميعاً إخوة لا تضرهم هذه الخلافات! قال: نعم وهذا هو المؤكد المعمول به!
قلت: وتأكيد هذا المعنى في قول الشاعر:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً
الشام فيه ووادي النيل سيِّان
وكلما ذكر اسم الله في بلد
عددت أرجاءه من لُبِّ أوطاني
فإذا الرجل ينتشي ويطرب ويقول: الله الله!!
قلت: وآخر يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
فقال: نعم نعم, ثم قلت وأنا أبدي الامتعاض: ولكن يبدو أن هذا الكلام إنما هو مجرد شعارات, وليس له أي تنفيذ في الواقع!
فقال الرجل: عجباً وكيف؟!!
فقلت: بدليل السماح لليمنيين فقط بالحج عن طريق البرّ, وعدم السماح لغيرهم ومنهم المصريين!!، فأبدى الرجل أسفه وقال: إن هذا الأمر لا نملكه نحن ولكم وددنا أن تزول هذه التعقيدات التي تفرق بين الإخوة الأشقاء وبعضهم, ولكن هذه أفعال الحكومات, وما لنا فيها يد!!
ولو فرض أننا سمحنا لأحد الحجاج عير اليمنيين بالسفر خلال البر, فإن عساكر الحدود سيردونه ولن يسمحوا له بالعبور, ثم أردف: ولكن هل لابد من السفر عن طريق البر؟! فقلت: تعم لأنني لا أملك ثمن السفر بالطائرة! قال: فعن طريق الباخرة لا يزيد كثيراً عن البر, قلت: ممكن؟ قال: نعم ممكن!, وأمسك بأوراقي وختمها ؛ وهكذا صرنا أصحاباً, فلم يدقق في أوراقي, ويسرها الله لي ـ بإذنه وفضله ـ!
ولمَّا عدت إلى " دار الرئاسة " ـ وكانوا يبحثون عني, فلما علموا أنني ذهبت إلى السفارة كانوا يتوقعون أني سأعود كاسف البال خائب الرجاء, فلما عدت بالأوراق مختومة, وتوجهت بها إلى الإدارة وعليها خاتم السفارة السعودية بالسماح لي ـ وقابلت الأستاذ " زكريا " فعرف أني فعلتها فانفرط من الضحك حتى استلقى على ظهره! ـ وعجب الزملاء, كيف سمح لي بالسفر؟! فقال الأستاذ زكريا: " إن الشيخ محمدا صدق الله فصدقه الله "!!!!
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟!
فضحكت وقلت: جاءتني عن طريق الباخرة, لكني كنت أود السفر عن طريق الطائرة!! فقال لي: حتى هذه ستنشف دماغك فيها هي الأخرى؟! ثم أردف: اعتمد على الله, وجهز نفسك يمكن " دار الرئاسة " توافق ثم استدرك: ولكن هل معك أموال؟! فقلت: من أين لي بها؟! فقال: لا تقلق نفسك بشأنها سأسلفك ما تحتاج إليه حتى تقبض! قلت: وكيف أحج وأنا مدين فربما أموت, وهل ألقى الله مديناَ؟! فقال: إذا مت, مت براحتك, فلست محتاجاً منك حاجة, وياعم, استلم عملك أولاً وسأدبر السفر, واترك لي هذا الأمر!
" احضر للحج "!!
وحدث ما توقعته وتمنيته ؛ إذ كنت واثقاً في الله ثقةً لا حدود لها, فجاءني البرق " برقية " من " رئاسة المعاهد " فيها كلمتان فقط " احضر للحج " وطرت من الفرحة, وكاد قلبي يتوقف من شدة الضرب لسعادتي, وبدأت أجهز نفسي للسفر, وكانت السيارة ـ التي ستقلنا واتفقنا معها ـ ستخرج من مكان بعيد عن المنزل بما يزيد عن " 3 " ثلاثة كيلوات, وهذه المسافة في اليمن كبيرة للغاية إذ إن الطريق وعرة, وكلها حجارة, وكانت مساكننا فوق الجبل, وعلينا أن ننزل من أعلاه إلى أسفل الوادي ثم نتجاوز مفاوز كبيرة إلى المكان الذي ستقلنا منه السيارة!
وارتطمت بصخرةٍ طنننت بعدها الشلل!!
وقطعت هذه المسافة على قدمي, إذ لم تكن نفقاتي تتحمل أن أرهقها بمزيد من النفقة, ورغم خطورة الطريق, لم أكن أعبأ بها أو أهتم لها, وقد وقعت في أثناء الطريق على صخرة, وظللت على الأرض لمدة ساعة, أحرك قدمي ولا تطاوعني, حتى توهمت أني أصبت بالشلل!, ولكني أفقت بعد ساعة , واستطعت المشي عليها ببطء, ثم زال الألم في غمرة الفرحة والنشوة, ووصلت إلى السيارة وأسرع الإخوة إلى المحلات فاشتروا واشتريت ملابس الإحرام, ثم ركبنا السيارة إلى الميناء, وكنت أتعجل الوصول حتى لكنت أحسبني أدفع بالسيارة لتزيد من سرعتها إلى السعودية, وتأخرت يوماً عن الإخوان, وكانوا قد سبقوني إذ استقلوا الطائرة مع أ. زكريا ,وكانوا يكبرون ويهلللون جماعات, ونزلت بـ " جدة "!
كلمة السرّ " الإخلاص " لا " مريم صدقة "!!
وهناك كانت أمامي عقبة, إذ كان لابد للحاج من أن يتخذ مطوفاً, وكان العساكر على المداخل والبوابات يسألون الحجاج, ولقد احتلت لذلك, إذ سمعت الذين أمامي إذا سألهم سائل, قالوا " مريم صديقة " -اسم مطوفة مشهورة-, فقلت مثلهم (وعديت)!!!
وسرق جواز السفر!!
وبتنا ليلتنا في " مدينة الحجاج " بجدة, وهناك أسرَّة متعددة الأدوار, وربما كانت من تحتك واحدة سيدة, ولكن كل في فلك يسبحون, وفي شغل فاكهون, لا يفكر احد في شيء, واستقلينا حافلة " أتوبيس " شركة الكعكي السعودية, ولما دخلنا إلى مكة ذهبت أنظر إلى أمتعتي, فوجدت "جواز السفر" قد سرق, وكنت قد وضعته ظاهراً في وسط الملابس, فلم أجده بينهما, فعلمت أنه قد سرق, وهذه عقبة أخرى, إذ لا أستطيع الحراك بدونه, وكان ذلك وبيني وبين "الحرم المكيّ" مسافة بسيطة بسيطة جداً!!، والواحد مشتاق, وتركت فكرة الجواز من رأسي حتى دخلت الحرم, وجريت في وسط الجموع أود أن لو رميت نفسي ـ إن شا الله أموت ـ وعملت عمرة متمتعاً بها إلى الحج ثم تحللت و (سرحت ـ يعني نمت ليلاً بلغة الشيخ!! ـ ) ثم لما استيقظت في الصباح بحثت عن " مريم صدقة ", وعن " الجواز " عندها فلم أجده, وحدثني أحد الناس أن أذهب إلى " وزارة الأوقاف السعودية " فوجدتها مغلقة, وكانت لا تفتح إلا ليلاً, فجلست حتى أذنت العشاء هناك, وقابلت " مدير الأوقاف " ـ وكان رجلاً وقوراً ـ فبحثوا لي عن الجواز, فلم يجدوه, فقال لي المدير: نحن سنعطيك جوابا إلى " وكيل مريم صدقة " الحاج " يحيى " ليمكنك أداء بقية المناسك بحرية الحركة, وذهبت إلى " الحاج يحيى ", واستقبلني مرحباً!! , وكنت المصري الوحيد الذي يلبس "العمامة والكاكولا", وأودعدت الحقيبة لديهم, وأردت أن أنام
ثم حدثتني نفسي: " أنت وحش بالقويّ هل ستنام في بلد " البيت الحرام ", فنهضت في الليل, وذهبت إلى الحرم, وفي أثناء الطريق قابلني من القرية ( نشيل ) الحاج " موسى شريف " وظل ينظر إليّ وهو شاك في أن أكون " محمد صقر", ولما رأيته جريت وناديته أنا, فجاء مقبلاً واحتضنني, وذهبت معه بعد الطواف في الحرم إلى مجموعة من البلد.
إن شاء الله سأقابلكم هناك!!
ولهذه المجموعة قصة طريفة وهم ( الحاج علي الخولي, والحاج موسى شريف, والحاج أحمد الشهاوي ) وكنت علمت أنهم حجزوا للسفر لأداء الفريضة, والتقيتهم يجهزون أوراقهم أثناء تجهيزي لأوراق سفري إلى اليمن, وكانوا يقولون لي: " عقبى لك "!!
وكنت أرد عليهم: " إن شاء الله سأقابلكم من هناك وسنحج معاً!!!"
شغل مشايخ بقى!!!
ولم أكن أدري كيف أقول هذا الكلام!!, ولكن لما كنت عازماً على الحج, ومفوضاً أمري لله ـ تعالى ـ علمت أنه لن يخيب رجائي!!
فلما التقيت بهم, وحبوا بي كثيراً, وعجبوا أشد العجب, أني صدقت في كلامي فقلت لهم: ألم أقل لكم سنلتقي وسأقابلكم من هناك؟! فقالوا لي: وكيف جئت؟!, فقلت لهم: شغل مشايخ بقى!! فضحكوا , وجلست معهم حتى الفجر, وقال لي احدهم: أنا رأيتك أمس!، فقال له الحاج " موسى شريف ": طيب ياأخي كنت نادي عليه!! فقال له: ما كنت أحسبه هو, لأنه لم يخرج معنا, وما كنت أظنه سيأتي ولكنه فعلها!!
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كلَّ الظنِّ ألا تلاقيا!!!
والتقيت بأناس من البلد, كانوا يشتغلون هناك, وكان منهم " حمام عمر ", ولما رجعوا إلى البلد, نشروها وطمأنوا أهلي!
ثم حدث بعد ذلك ـ في أثناء الحج ـ أن سرقت جميع أموالي ـ, فقلت معقباً: وهل هناك أموال أصلاً حتى تسرق؟! فابتسم الشيخ ثم أردف: ( أهوه )!
وكان علىَّ أن أمشي على قدمي, فمشيت إلى " منى " ( ثم أشار الشيخ إلى قدمه المريضة ـ وكنا في المستشفى في المرة الأولى ـ وقال: أسأل الله أن يعافيها!! )
ثم من " منى " إلى " عرفات " مشياً, وصليت الظهر والعصر قصراً في " نمرة " ووقفت بعرفات, وأمطرت السماء يومها, ثم ذهبنا إلى " المزدلفة " وبتُّ فيها ليلتي وكان نومي في أي مكان يدركني فيه الليل حيث كنت أفرش السجادة تحتي وأضع الحقيبة تحت رأسي وأنام, ثم عدت بعد الفجر مباشرة إلى طواف الإفاضة " طواف الركن ", وكان قد بقي معي قليل من النقود, ولكنني أثناء السعي في المسعى بين الصفا والمروة اتخبطت كتفين, وبعد نهاية الأشواط, ذهبت لأحلق رأسي, وذهبت لأخرج بقية نقودي, فلم أجد, فعلمت أني سرقت ساعة الكتفين, فأحرجت أن أعود إلى الرجل دون نقود, فخرجت ولم أعطه وهي في ذمتي!!!
خيمة الإخوان من الغربية!
وعدت في اليوم نفسه إلى " منى " والتقيت بخيمة فيها إخوان من الغربية, فقضيت معهم إلى اليوم الثاني, وتعجلت عائداً إلى " مكة " كل ذلك وأنا لا أستريح ولا أخلد إلى النوم إلا قليلاً, ورغم ذلك لم أحس أبداً بتعبٍ ولا عناءٍ!!
ثم أردت الذهاب إلى " المدينة المنورة " لزيارة مسجد الرسول, والوقوف للسلام عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وهي مسافة كبيرة حوالي ( 500 ك ) خمسمائة كيلو, فكيف لي أن أمشيها؟!, وقابلني الأستاذ ( محمد عبد الحميد ) زميل المعتقل, والذي حدثتك عنه من قبل, ذلك الأخ إياه " بتاع لا مانع عندي!! " وذلك بعد أن سألت عن الأستاذ " محمد قطب " ولكني لما ذهبت إلى حيث مسكنه لم أجده, وانتظرته فلم يأت إلى وقت متأخر, ولما خرجت ولقيت الأستاذ " محمد عبد الحميد " كانت نجدة من السماء, حيث ذهبت معه إلى بيته, وشربت معه الشاي, وكان أن حدثته بما صار إليه أمري فتطوع وأخرج لي من جيبه مالاً كفاني إلى المدينه وزيادة!!!

وفي طريقنا إلى المدينة, كنا ننزل في استراحات في الطريق, وفي استراحه منها نسيت أوراقي منها التذكرة, وجزءاً من المال, وكانت حيرة وتقابلت في المدينة مع فضيلة الشيخ "محمد الغزالي " ـ رحمه الله ـ فشكوت إليه ضياع الجواز والتذكرة, وطلبت إليه أن يتوسط لي عند شركة الطيران فقال لي: هؤلاء أناس لا يمكن التفاهم معهم, لكن من جهة المساعدة فأنا أساعد، وأخرج ( 50 ) خمسين ريالاً من جيبه وأعطانيها, فشكرته وانصرفت!!
وتصنعت عدم الفهم!!!
وكان عليّ أن أذهب إلى شركة الطيران بعد ذلك, فجريت أسأل عن إمكان استخراج بدل للتذكرة التي ضاعت والجواز, وبالفعل سألت, ولكنهم أخبروني بأن ذلك غير ممكن, لكن الإجراء المتبع في ذلك أن أذهب إلى مكان سموه لي أبحث في عن أسمي, فإذا وجدته فإنه سيعطيني هناك ورقة بدلاً عن التذكرة أركب بها إلى اليمن, وذهبت إلى الشركة, وهناك وجدت اسمي ـ والحمد لله ـ ولكن بعد عناء لأن الموظف كان يطمع في أن يأخذ مني مالاًغير أنه لم يصرح لي بذلك, وأنا تصنعت عدم الفهم مما جعله يؤجلني إلى اليوم التالي دون أن يبحث لي عن اسمي, وذهبت إليه في اليوم التالي ووقفت بجواره وهو يقلب صفحات الدفتر بسرعة, وكن قدر ربك أن ألمح اسمي في قلبة الورقة فصحت بصوت عالٍ فرحاً: ها هو ذا اسمي!!!
فقال لي: خلاص تصلي الفجر وتأتي لتركب, وهكذا قدر الله ـ تعالى ـ أن تفيض معي الأموال بعد ما أعطاني الأخ "محمد عبد الحميد ", وفضيلة الشيخ " محمد الغزالي "
وكانت ساعتي قد ضاعت في زحمة الحج!! فذهبت واشتريت ساعة جديدة بفضول الأموال, ولهذه الساعة قصة طريفة!!
وذلك أنها كانت ساعة قديمة جداً, وكان إخواني في المعهد باليمن, يقولون لي: لا تأت بهذه الساعة معك وأنت قادم, وإن جئت بها لن ندخلك المعهد!
فقلت: ساعتها نتصرف, نضربكم وندخل!!
فضاعت الساعة, وتيسرت الحال, وجاءت التذكرة فاشتريت ساعة بـ ( 120 ) مئة وعشرين ريالاً, ولما دخلت عليهم في المعهد ـ بعد عودتي إلى اليمن ـ كان أول ما لمحوه في يدي هي الساعة, فلما رأوها هللوا وأكثروا من الضحك وقالوا: ( أيوه كده خاف )!! فقلت: مكره أخوكم لا بطل!!
ولما قبضت قلت: خذ يا أخ زكريا مالك من مالٍ عندي, فرفض أن يأخذ مني شيئاً إلا أن أبعث بأموال لأهلي هنا في القرية, وقال لي: (تبعث للبلد أولاً ونحن نتصرف هنا)
وهذا درس بليغ في المروءة والأخوة والأصالة اليمنية وبوتقة الإسلام التي صهرت الجميع حتى ليحس معها من في أقصى الأرض بأسره هذا في " نشيل " بينما الأخ البعيد عن الله لا يحس ولا يريد أن يحس بأخيه من أبويه فسحقاً لأخوة هذا نعتها, وأكرم بأخوة قال فيها ربنا: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " [ سورة الحجرات 10 ]
حمدت الله الذي يستره غطَّاني ونجَّاني!!
ولمَّا ذهبت إلى اليمن, سمعت ثاني يوم لوصولي هناك, أني نجوت من مأزق كبير, إذ كانوا يقبضون على من ينام في الحرم, وما كان لي من مبيت غيره, فحمدت الله الذي بستره غطاني ونجَّاني!!
أهجت شجوني
وبعد ان انتهى الشيخ من حكاية الحج الجميلة, قلت له: أتدري ماذا سأسمي هذه القصة؟ فقال: ماذا يا سيدي؟, قلت: رحلة كفاح في سبيل الحج, فضحك ـ رحمه الله ـ ضحكته المجلجلة الجميلة المعهودة, وقال بسرور: " أهجت شجوني يا ولد, أنا أحكي لك الرحلة وكأني هناك أرى المناسك, وأباشر عملها, آه أنا لم أجلس معك قبل هذا الوقت كل هذه المدة, ولم أعرفك عن قرب مثل هذه الأيام التي تقضي معي, ولكن أعرف منك النجابة, وأقدرك وأجلك, وأنت ممن أعتز بهم "!!
وقد كانت كبيرة على وايضا لا تزال .. فان مثلي فخر له ان يكون من ابناء الشيخ بل ان يكون ممن وقع عليهم نظره.
وكان للمعهد فيه نصيب!!
يقول الشيخ: وكان ان نزلت آخر العام, ومعي اموال, بعدما سددت ما كان عليّ للأستاذ "زكريا", ورجعت بشيء من الاموال, شاء الله أن يكون للمعهد فيه نصيب, إذ كنا قد اشتغلنا فيه قبل أن أسافر الى اليمن!!
وفي سنة 81, جلست في البلد, ولم أشأ أن أرجع إلى اليمن, فما كان لي من مأرب فيها قضيته, فلم العودة إلى اليمن مرةً أخرى؟!, وفي سنة 82, سافرت إلى " سراليون ", وليلتك طويلة إن شاء الله, قربنا من ( 12.5 ) بعد نصف الليل ( مش هاننام بقى؟!! ) فضحكت وضحك , وخلدنا للنوم.
والعجيب أنه لم ينم ولم أنم, إذ سكتنا عشر دقائق فلم يداعب النعاس عيني أي منا, فعدنا إلى الحديث إلى قبيل الفجر بنصف ساعة, وظللنا نتحدث حتى خطف النوم أعيننا ولم نستيقظ إلا في السابعة والنصف صباحاً نظن أنفسنا في وقت الإقامة لصلاة الفجر فسمعت الشيخ يتحدث إلى الأخ " مسعد عبد الوهاب " -رحمه الله- وكان قد جاء لزيارته
ومما سمعته يقول له: " أحمد ده أصله طماع عايز يكتب عني كل حاجة حتى ضيع علينا صلاة الفجر, وضيع علينا العيش ", فصحوت من النوم صليت, ثم ذهبت سريعاً أشتري العيش وجئت فافطر الشيخ.
ثم عدنا إلى الورقة والقلم وكانت هذه الذكريات الجديدة من خفقات قلب!!!!
ومعها نلتقي في الحلقة القادمة بمشيئة الله.

(اليوم الثامن)
" من جهود الشيخ على طريق بناء قرية نشيل "
>>>>>>>>> 
من أراد ان يقدم الخير لنشيل فلن ينتظر حتى يكون عضو مجلس شعب او شورى, فقد خدمها من قبل: السيد احمد العاصي, وفضيلة الشيخ محمد عبدالسميع صقر, -رحمهما الله- قبل ان يدخلا المجلس واثناءه وبعده.
وليس شرطا أيضا ان يكون صاحب مال وغنى, فقد عرفنا السيداحمد العاصي, رجلا يحب الناس اجمعين, يكن لهم كل احترام, فأجمعت كل القلوب على حبه, ولو دفع امواله كلها ما كسب هذه المحبة, لكنه صدر للناس الاخلاق والرجولة وسعى في مصالح المجموع لا صالح فئة ولا حزب ولا عائلة.
ولم يكن فضيلة الشيخ محمد عبدالسميع صقر من اغنياء القرية, لكنه بناها وشيدها ورفع عمادها واعلاها , وجعل لها في المحيط ذكر وشأن, باجتهاده وجهاده فلله دره-:
على قَدْرِ أهلِ العَزْم تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
ويكبُرُ في عينِ الصغيرِ صغارُها ويصغرُ في عين العظيم العظائمُ
بناء المعاهد
قيض الله همة الشيخ ودفعها إلى إعداد دور العلم التي تخرج الأجيال، وانصرفت همته إلى " التعليم الديني " لتخرج هذه الأجيال حافظة لكتاب الله تعالى – فاقهة ً لدينها، متبصرة بهدي نبيِّها, وسيرة سلفها الصالح، جاء الشيخ ليقدم جهوداً كانت منتظرة إياه على قدر، وكأنما اصطنع الله الشيخ لخدمة هذا الجانب على عينه! فيما يستطيع اللسان ان يقول: لولا الجهود التي بذلها في هذا الجانب لكانت نشيل تغوص في بحار من الجهل الى اليوم, ولم تتعد فيها اعداد المتعلمين 10/1 من عددهم اليوم.
قام الشيخ – رحمه الله – على بناء صروح الإعداد لجيل يحمل رسالة الإسلام, فأنشأ – رحمه الله – المعهد الدينيّ الذي بدأ بالمرحلة الابتدائية, ثم المرحلة الإعدادية ثم المرحلة الثانوية, ولا زال المعهد يشهد – بفضل الله وكرمه – تخريج العشرات كل عام في شتى فنون العلم والمجالات العلمية التي تنفع البلد والمسلمين في كل مكان!
شيد الشيخ معهد نشيل الابتدائي الاعدادي الازهري
وشيد الشيخ ايضا معهد الهدي المحمدي "ثاني معهد بقريتنا", حين ازداد اقبال الناس على التعليم الازهري.
بناء المساجد وعمارتها:
وإلى جانب هذا, أقام الشيخ المساجد ليتم البناء, فبجانب العلم العمل, وإلى جوار بناء العقول, غرس اليقين, ببذر تقاوي الإيمان في أراضي القلوب لتثمر الطمأنينة والقيم النبيلة التي هي بلسم الحياة وشريان دمها الدَّفاق.
لم يكن مسجد السيدة زينب هو الوحيد الذي بناه الشيخ محمد رحمه الله فقد سبقه مسجد سيدي عبدالمجيد "الزاوية"
ولحقه مسجد "العصاة" وكان الشيخ يحب أن يطلق عليه اسم "مسجد الهدي المحمدي" أو " مسجد الهدي النبويّ ", وقد قال لي مرة: ولعلنا نوفَّق لتغيير هذه التسمية بمشيئة الله – تعالى – في قادم الأيام! -لكن قدر الله اليه سبق-
وعلمت أن بعض الشباب الغيور قد سعى في تحقيق هذه الرغبة, لكنه اصطدم بـ " الروتين " بل بـ " الرو- طين " مما جعله يحبط عن مساعيه!!
في كل المجالات: رصف طرق, وافتتاح مكاتب الخدمات:
ان الداعية الناجح هو من يعرف حقيقة دعوته وسبل إرسائها في المجتمع، والوصول بها إلى أعماق النفوس , فهو يشارك المجتمع همومه، يسعى إلى نهضته, ويعمل على حل مشاكله العامّة والخاصّة على السواء، لذا رأينا الشيخ – رحمه الله – يساهم في هذا المجال بنصيب وافر، فتارة ً نراه يقوم على رصف الطرق الموصلة بين "إبشواي – نشيل" وطريق "ميت الشيخ – نشيل "
وتارة نراه يقوم على تجديد " مكتب بريد نشيلِ، ويقيم مقراً جديداً يليق بأداء المهمة التي يقوم بها.
وتارة نراه ينشيء صرفا مؤقتا للقرية لحين تيسر عمل الصرف الرئيسي!
وتارة نراه يعمل في وقت مبكر جدا على إلحاق أيتام وفقراء القرية ضمن كشوف الجمعية الشرعية بالمحلة الكبرى برواتب شهرية ورعاية موسمية .
في عمارة المدارس العامة:
ولم تقتصر مساهمات الشيخ في مجالات الإصلاح على التعليم الأزهري فقط, بل كان الشيخ يصنع صيانة لمدارس التعليم العام فيتم ما نقص بها من أبواب وشبابيك وزجاج , وقد طلب اليه ذلك كثيرا ففعل, ليقي أبناء وبنات بلده البرد القارص شتاءً, ولظى الشمس صيفاً!
هذا على المستوى العام!
وعلى المستوى الفردي فكم ساعد الشيخ – رحمه الله – من فقير، وآوى من ابن سبيل, وعاون من مسكين, وداوى من مريض, ويسَّر لآلاف الناس مجالات العمل, وطرق الكسب الحلال، اذكر ان عشرات البائعين الذين كانوا يجلسون في السوق او اماكن اخرى "يسترزقون" كانت رؤس اموال تجاراتهم عبارة عن مساهمات من اهل الخير توسط فيها فضيلة الشيخ رحمه الله, وكم من بيوت وشباب اكملوا مسيرتهم واتموا تعليمهم بفضل الله عليهم من هذا الطريق, وربما أبناؤهم لا يعون عن ذلك شيئا لكن الله يكتب ويشهد.
بدأ بنفسه:
وإذا كان الشيخ – رحمه الله – قد انتدب نفسه لجمع الأموال من المنفقين في سبيل الله – تعالى – لتوظيفها في مصارفها الشرعية, ومنفعة المجموع والصالح العام من بناء مساجد، ومعاهد, وتعبيد طرق...الخ – وهي مهمة شاقة شاقة – فقد قام قبلها بمهمة هي أقوى وأشقَّ, إذ كان الشيخ – رحمه الله – أسبق هؤلاء المنفقين فوضع كل ماله – وهو جد كثير – فيما أقام من مشروعات!! وسلوا رحلة اليمن ورحلة سيراليون وافدنة كان الشيخ يملكها وراتبا كبيرا كان يقبضه اين كانت تذهب كل هذه الاموال والرجل عاش وحيدا فترة حياته الاخيرة وقبلها لم يكن معه الا ابنته الوحيدة بعد وفاة وزجه رحمها الله.
لكم رأينا كثيراً ممن ندبوا أنفسهم لعمل الخيرات إذا سئلوا من أموالهم الخاصة قدموا شيئا قليلا ًً هذا إن لم يضنوا بالقليل والكثير!!
خلا الشيخ ومن رحم الله , ومن ثمَّ شهدت كل مشروعات الشيخ – رحمه الله – نجاحاً مبهراً, ومناخاً يصعب أن يُتنبَّأ فيه بظهور مثل هذه النتائج ولو على سبيل المبالغة!
وربك اعلم بما خفي!
لقد كان لأناس كثيرين جدا – يعلمهم الله ايضا – رواتب شهرية لدى الشيخ, تصلهم دون عناء منهم أو تعب, تقديراً من الشيخ لحاجاتهم وعدم استطاعتهم, ابتغاء وجه الله – تعالى – لقد كان للشيخ أعمال في الخفاء , يدق خفاؤها عن فهم الذكيِّ, ولا غرو فقد كان يخفي مثلها لتكون خالصة له – رحمه الله – عند ربه – تعالى – إذ لم يتيسر له أن تكون أعماله كلها في الخفاء والسِّر, لما لبقية الأعمال والإنجازات من ضرورة وفرضية الظهور والعلانية!
ومن الواجب ان نذكر الاجيال بان صاحب هذه الانجازات لم يبن لنفسه مجدا شخصيا أو يرفه نفسه بشراء سيارة او بناء فيلا او حيازة اراض او ادخار رصيد "وليس ذلك بحرام" بل -وهو ابن حسن البنا الذي لم يخلف من ورائه اموالا وعقارات وزروعا وثمارا, وانما خلف من ورائه رجالا يحملون الدين على اعناقهم, لا بيبغون به عرضا من اعراض الدنيا, ويبذلون بغية وصول الهدى للناس من اموالهم بل ودمائهم- ظل الرجل الكبير يقيم دليلا تلو الدليل على انه على عهد الاوائل يسير.
رحم الله – تعالى – فضيلة الشيخ رحمة واسعة, وجعل هذه الإنجازات في ميزان حسناته, آمين يا رب العالمين إنك قريب مجيب!

 (اليوم التاسع)
" فضيلة الشيخ نائبا في البرلمان "
في (الدورة البرلمانية 1987 - 1990) خاض الإخوان المسلمون انتخابات عام 1987 إلى جانب حزب العمل المصري وحزب الأحرار ضمن تحالف إسلامي تحت شعار الإسلام هو الحل.
وهو التحالف الذي أثمر عن 56 مقعدًا، وفاز الإخوان من خلال "التحالف الإسلامي" مع حزبي العمل والأحرار بنسبة 17.4% من أصوات الناخبين ليحصلوا على مليون و163 ألفا و525 صوتًا من أصل أصوات سبعة ملايين ناخب، وفاز للإخوان 37 نائبًا (حوالي 8.5% من مقاعد البرلمان)- وذلك لأول مرة في مصر- من أصل 454 نائبًا برلمانيًا (444 بالانتخاب وعشرة بالتعيين).
وتقدم ترتيب الجماعة بذلك لتحتل الترتيب الثاني بعد الحزب الحاكم (69% من الأصوات) من حيث عدد الأصوات والمقاعد التي فازت بها، وبـ 37 مقعدًا، احتل الإخوان المرتبة الأولى في صفوف المعارضة.
وقد انتظمت احزاب التحالف تحت "الكتلة البرلمانية لنواب التحالف الإسلامي في مصر"
كان أحد أعضاء هذه الكتلة وأحد الاعضاء ال37 في الاخوان المسلمين ابن قريتنا فضيلة الشيخ محمد عبدالسميع صقر, مرشحا على مقعد الفردي فئات.
أذكر اننا ونحن صغار - لم اتجاوز انا السابعة من عمري - وكانت الدعاية للشيخ رحمه الله تعالى تطوف ارجاء القرية فنمشي مع الناس نهتف بهتافاتهم الذي يتردد في الذهن منها الان شيء كثير واتصور الموقف تماما كانه اليوم.
كنا نهتف بلغة الريف وتصوراتها البسيطة وتعبيراتها غير المتكلفة , وفيما نقول: حط السنجه على الميزان الشيخ صقر هو الكسبان , حط الرز على المحشي فكري الجزار مينعشي, وكان الحاج فكري الجزار رحم الله الجميع ينافس الشيخ على مقعد الدائرة يومها..
ونجح الشيخ رحمه الله في امتلاك المقعد والجلوس عليه, وخلال المدة التي قضاها الشيخ بالمجلس لم يبخل الرجل الكبير على بلده واهل دائرته بخدماته, وماله يفعل وهو الذي يجهد نفسه ليل نهار قبل المجلس كما الحال بعده ساعيا ساهرا على خدماته,
قضى الشيخ في المجلس ثلاث سنوات فقط من المدة القانونية اذ قضت المحكمة الدستورية العليا وقتها , ببطلان مادة في قانون انتخابات المجلس بحجة انها قسمت دوائر مصر الانتخابية وحددت عدد الاعضاء الفرديين لكل دائرة في مقابل تحديد القوائم، والذي بناء عليه حكمت ببطلان انتخابات مجلس الشعب التي كانت قد جرت وبالتالي حل مجلس الشعب وقد تم فعلا حل مجلس الشعب وقتها بعد 3 سنوات من انتخابه. في قضية رقم 37 لسنة 9 قضائية.
هذا ما كان ظاهر المسألة (او الحجة كما يقال), اما الحقيقة فهي ما قدمنا من ان المعارضة في المجلس كانت قوية جدا فحصلت على نسبة 31% من المقاعد مما كان يقلق النظام الحاكم وقتها. "وما اشبه الليلة بالبارحة- مجلسا ورئاسة"
المهم ان المجلس حل بعد 3 سنوات فقط من انتخابه, وكان الشيخ رحمه الله يقول لي: اقسم حسني مبارك اننا لن نعتبه مرة ثانية, بل لن يفكر احد هؤلاء في المرور امام المجلس مرة اخرى, ثم يضحك الشيخ ويقول: انا كلما ذهبت الى التحرير وما حوله تعمدت ان امر امام المجلس لكي احنثه في قسمه بل حنثه اخواننا بعد ذلك مرارا عديدة.
من كلمات الشيخ تحت قبة البرلمان:
ومما يحفظ لنا في تاريخ الشيخ رحمه الله من هذه الفترة كلمة امام البرلمان وجدتها له على الانترنت ضمن كتاب "الاخوان المسلمون تحت قبة البرلمان" وكانت بعنوان:
أهمية بناء الانسان المصرى على أساس القرآن . "الصرف الصحى".
وهذا نصها:
السيد العضو محمد عبد السميع صقر : بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله رب العلمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . السيد رئيس الجلسة .
السادة الاخوة أعضاء المجلس . أحييكم أطيب تحية , تحية من عند الله مباركة طيبة , فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته , نعم أحييكم جميعا لأننا جميعا اخوة يربط بيننا ربنا عز وجل , حيث سجل فى كتابه العزيز :
بسم الله الرحمن الرحيم " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم " صدق الله العظيم .
من هنا يظهر جليا أنه لا تمايز ولا تفاضل لأحد على أحد الا بتقوى الله عز وجل , تلك التقوى هى نسب الله عز وجل , حيث يقول ربنا فى الحديث القدسى " يابن آدم جعلت نسبا وجعلت النسب قلتم فلان ابن فلان و وقلت ان أكرمكم عند الله اتقاكم ,
فاليوم أرفع نسبى وأضع نسبكم " من هذا المفهوم نرى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه حينما ولى الخلافة كانت أول خطبة خطبها قال :
أيها الناس انى وليت عليكم ولست بخيركم , فان رأيتمونى على حق فأعينونى , وان رأيتمونى على باطل فقومونى , الصدق أمانة , والكذب خيانة , والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق ان شاء الله , والضعيف فيكم قوى حتى آخذ له الحق ان شاء الله أطيعونى ما أطعت الله فيكم ,
فان عصيته فلا طاعة لى عليكم . وعمر بن الخطاب , رضى الله عنه قال " من رأى فى اعوجاجا فليقومه فقام رجل من رعية محمد صلى الله عليه وسلم وقال : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ,
فقال عمر : الحمد لله الذى جعل فى أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر بسيفه " .
من هنا نجد أن أبا بكر , وأن عمر بن الخطاب , وأن صحابةرسول الله صلى الله عليه وسلم , وان الرعيل الأول من تلامذة محمد صلى الله عليه وسلم , قد استقوا هذا الفهم من كتاب ربنا عز وجل حيث قال :
بسم الله الرحمن الرحيم " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " صدق الله العظيم .
ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما هو الفصل ليس بالهزل , من تركه من جبار قصمه الله , ومن ابتغى الهدى فى غيره اضله الله , هو حبل الله المتين , ونوره المبين , هو الذكر الحكيم ,
وهو الصراط المستقيم , وهو الذى لا تزيغ به الأهواء , ولا تلتبس به الألسنة , ولا تتشعب عنده الآراء , ولا يشبع منه العلماء , ولا يمله الأتقياء , ولا يخلق أى يبلى على كثرة الرد , ولا تنقضى عجائبه , والذى لم تنته الجن اذ سمعته ان قالو " انا سمعنا قرآنا عجبا " من علم علمه سبق , ومن قال به صدق , ومن حكم به عدل , ومن عمل به أجر , ومن دعا اليه هدى الى صراط مستقيم .
ذلكم هو القرآن أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليتلوه , فتنشرح الصدور , وما تقرب أحد الى الله تبارك وتعالى بمثل كلامه , ثم ليكون بعد ذلك دستور حياته , ونظام مجتمعهم , يرسم لهم طرائق الحياة السعيدة فى هذه الحياة الدنيا , وطرائق الفوز والنجاة . "
من عمل صالح من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ..."
وبالنسبة لقطاع الاسكان , فان مدينة قطور مدينة كبيرة ويرتفع منسوب المياه الجوفية تحتها ارتفاعا كبيرا مما أدى الى تهدم كثير من المنازل وذلك لعدم وجود صرف صحى ,
والمطلوب اقامة شبكة صرف صحى للمدينة حرصا على حياة السكان وعدم انتشار الأمراض التى تضر بصحة المواطنين , وشكرا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والكلمة مليئة بما يستحق الاعجاب والتقدير والتعليق نتركه لفهم القاري الكريم.
والى لقاء قادم في حلقة جديدة بمشيئة الله تعالى في رحاب الشيخ.
 
(اليوم العاشر)
قبل الرحيل:
كان فضيلة الشيخ محمد عبدالسميع محمد صقر -رحمه الله تعالى- مثالا للتضحية والبذل لاجل اسعاد الاخرين , لا ينتظر مقابل ذلك جزاء ولا شكورا , خلا من الله تعالى الذي اعانه على السعي في اعمال الخير منذ وقت مبكر من حياته.
فقد عرفته الايام - مبكرا - منفقا على الفقراء والايتام , قائما على مصروفات طلبة العلم من غير القادرين, وحين تعجز يده وحيلته ماديا , يقف جزءا من وقته ليدرس في فصول التقوية ومراجعة الدروس مجانا. ثم كانت بعد ذلك عطاءات الله على يديه التي قصصنا عليك في المرة السابقة جزءا كبيرا منها ولا تزال آثاره شاهدة له بالحسن من الذكر في الاخرين.
لقد كانت مساعدة الناس شيء يجرى في عروق الشيخ مع الدماء, ولم يقعده عن السعي والكد والجهد شيء في هذا السبيل , حتى سقط طريح الفراش.
............................
ثلاث وسبعون سنة كاملة هي عمر الشيخ, كان الى آخر لحظة فيها ساعيا في الخير حتى مرض مرضاً شديداً, من جراء جرح في قدمه وكان مصابا بالسكر – وجرح السكر قلما يندمل- طالت فترة معالجته ولم يأت بثمرة– ولم يكن بد من أن يذهب الشيخ إلى المستشفى ليكون تحت العناية والملاحظة من قبل المختصين, فأقام بالمستشفى المركزي بقطور مدة طويلة, يسَّر الله خلالها واندمل الجرح, وأتم الله الشفاء, وعاد الشيخ بحمد الله وفضله إلى منزله راضياً مرضيا بفضل من الله وعافية, وكانت وصايا الأطباء له أن يستريح ولا يرهق نفسه, ولكن هيهات, وإن حذره الأطباء وبالغوا في تحذيرهم , أو هددوا وشددوا في تهديداتهم , فهو الشيخ الذي لا يملك نفسه أن تجهد لسعادة الآخرين, وأن تشقى لراحتهم, وان تبذل النفيس والغالي لكي ترى البسمة على وجوه الثكالى واليتامى والمساكين والبؤساء والفقراء والمحتاجين , ابتغاء وجه الله وطلباً لرضاه.
..............................
عاد الشيخ يجدّ ويجتهد, ساعياً لاستكمال هدفه, باذلاً غاية وسعه, فى رأسه أن يقيم مقراً لجمعية خيرية تعمل على رعاية القرية اهلها ومصالحهم ، وأن يتم المستشفى الخيري التي كان اسس لها تحت مسجد السيدة زينب, وأن يقيم وحدة غسيل الكلى, في نفس المكان, وأن يبني معهد الفتيات الذي عزّ عليه أن يتأخر إلى هذه الفترة من عمر انجازاته,
عاد الشيخ ليترجم هذه المعاني إلى أفعال وبدأ يعمل ويحقق وينجز , وهو في كل ذلك يدور على قدميه , يعمل ويجتهد ويعطي ويبذل, لا يكل ولا يملّ ليل نهار ...
ووسط هذه المعركة حامية الوطيس, وفي هذا المشهد الحارّ المفعم بالانجازات , سقط الشيخ لا يستطيع الحراك بسبب التعب الذي عاوده في قدمه وبدأ يتسلل الى الجسم الواهن ويوقفه - قسرا- دون الاكمال وصار الشيخ مرة اخرى طريح الفراش.
............................
لم أعلم بمرض الشيخ – رحمه الله – من أول الوقت ككثيرين من ابنائه واحبابه , وقد كانت النفس تقبل أن تخبر بمثل هذا الخبر عن الشيخ وعن حالته الصحية ونوبات المرض التي تفاجئه,لكن الفاجعة هذه المرة كانت ثقيلة:
دخل الشيخ المستشفى, وأدخل حجرة العمليات, أخبرني بذلك احد الاخوة في اتصال هاتفي , وعلى الفور وقبل أن أستزيد مخبري شيئا, أردف قائلا ً: وقطعت رجله إلى الفخذ!!!!!
يا لوقع الخبر, ويا لشدة المصيبة!!!
قطعت القدم التي طالما سعت في الخير لعباد الله, قطعت القدم التي كثيراً ما قضت مصالح الناس وحوائجهم, تشق الظلام عن أنفس المكروبين فتفرج همومهم وتزيل كروبهم.
وجالت الخواطر البائسة: ها هو ذا جزء من الشيخ قد سبقه إلى القبر فما عساه يوحي به ذلك, وماذا تخبئ لنا الايام؟!
لا, إن القلب لا يطيق تصور ذلك أو تخيله, لكن (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ).
..............................
اخفى الاخوة الخبر عن الشيخ في البداية , ثم أخبروه - رحمه الله – فما جزع ولا فزع بل احتسب وصبر لله – تعالى – يسأله الاجر والثواب.
انتقل الشيخ من غرفة العمليات إلى حجرة الرعاية بالمستشفى حتى يقضي فترة العلاج, وجاء الخلق يواسونه ,القريب والبعيد, الغني والفقير، الكبير والصغير, الرجال والنساء, كل من عرف الشيخ أو سمع به, جاء يواسيه, لكن الذي كان يجري شيء غير ذلك تماماً, لقد كان من يزور الشيخ ليواسيه يجد نفسا مطمئنة بربها وإيمانها ويقينها واعتمادها على الله, ورضاها بقضائه وقدره لا يقدر! فلا يجد للمواساة إلى شفتيه سبيلا ً إذ يجد امامه نفسا مطمئنة, ولسانا ذاكرا , وبدنا على البلاء صابراً! فيقول: جئنا لنواسي الشيخ فواسانا, ولنعوده في مرضه نصبره على بلاء بدنه, فعادنا هو في مرض قلوبنا ونبهها من غفلتها , جئناه مذكّرين بالله فذكرنا هو بالله!
نعم, لقد كان مرض الشيخ شديدا ولكنه كان مثالا ً في الصبر يقصر عن بيانه كل قول, ويفوق كل مثالٍ!
صبر الشيخ على المحنة, فعوضه الله إيماناً ويقيناً ورضاً وطمأنينة ً, رآه حباً في أفئدة الناس التي تهوي إليه, وتجتمع حوله, ومن أبنائه الذين يحفون به من كل جانب ملء الوقت, يخدمونه ويقيمون على راحته, وجده في الثناء والدعاء الضارع الذي يأتي على ألسنة عائديه في كلمات ملؤها المحبة والود, تعبر عن مكنون الصدور نحوه, وما تحمله من عبق الحب وعبير الهُيام, والثناء الجميل هو " عاجل بشرى المؤمن ".
جاءت الوفود اليه شاكرة ومجاملة.
فهل يقدره الله ويساعده ليقوم لرد جميلها او بالاحرى للاستزادة من الاسباب التي جلبت له محبة هؤلاء الناس ومودتهم, أم ترى القضاء كتب في " اللوح المحفوظ " غير ذلك, وقدر الله في مشيئته سوى ما نرجوا؟!
..............................
كانت النفوس تتطلع إلى ذلك اليوم الذي ترى الشيخ فيه قد عاد إلى بيته, سالما قد زال عنه روعه, مطمئناً مشفياً, قد غابت عنه آلامه, فهل يأتي ذلك اليوم؟! ذلك كل أملها, وإنها لمنتظرة ورجاؤها في الله كبير ألا يخيب رجاءها!!
ولقد انتظرت طويلا ً تعد الايام تلوها الاسابيع تجر في ذيلها الشهور, لكن الشيخ لم يعد, ولا تشمّ رائحة العودة
كنا قد اعتدنا كل عام ان نقضي العيد بالبلد, واول ما يخطر ببالنا بعد الصلاة ان نذهب الى اصحاب الفضل امثال الشيخ واخوانه نهنئهم اول الناس, كنا نذهب الى الشيخ نعيد عليه في بيته, فنأتيه محيين مهنئين, غير ان هذه المرة كانت غير كل المرات السابقة ... كان العيد في المستشفى حيث يرقد الشيخ.
...........................
كان إخواننا الكرام " إخوان نشيل " قد قاموا بواجبهم على خير ما يكون تجاه الشيخ, فيما لو كان غيرهم في مكانهم ما صنع صنيعهم, إذ كانوا أكثر من أبناء العصب للشيخ – رحمه الله – كانوا حول الشيخ يتناوبون القيام على خدمته – رحمه الله – في مرضه, وقضاء حوائجه, وهم بذلك منشرحوا الصدر, طيبوا الفؤاد, قريروا العين, معتبرين ذلك قياماً ببعض حقه عليهم, وردّاً لبعض جميله الذي طوق به القلوب والأعناق, ولقد شرفت أن قمت معه في مرضه الأول أسبوعاً كاملا ً, وفي المرض الثاني يوما وبعض يوم, وكنا على استعداد أن تكمل مع الشيخ المشوار إلى نهايته, إن عاد بيته أو ظل في المستشفى مهما كلفنا ذلك من جهد ومشقة, ولو ظل ذلك سنين عدداً ولو – والله – بلغت مئين!
...........................
لم يكن ثم مبشرات بأن الشيخ سيعود إلى بيته في وقت قريب, وكان الرد الذي يجاب به عن أسئلة السائلين عن هذه النقطة, هو أن الشيخ سيظل هنا فترة حتى يتم شفاؤه وبختم جرحه ويسترد عافيته!
ولم يكن أحد يتصور ما ستكون عليه حياة الشيخ بعد ذلك من شكل أو صورة أو كيف سيمارس الشيخ شئونه -على قدم واحدة- إلا أن الجميع كان يتمنى خروج الشيخ من المستشفى حتى لا يبقى على هذه الصورة المرثية أو المرثي لها!
لم يكن أحد يتخيل كيفي سيقضي الشيخ بقية حياته طريح الفراش بل لا يحاول تخيل أو تصور ذلك في ذهنه, وإنما كان الجميع يود أن يعود إلى بلده فيضييء به ويستنير بنوره ولألائه ولآلئه!!
ولكن كيف ذلك؟ الله وحده – يعلم – وهو وحده القادر على كل شيء, إذ هو وليه ومولاه, ولا يشق عليه تنفيذ ذلك وإيقاعه!
.................................
لقد كان الشيخ من ذلك النوع الذي لا يخفي ما في قلبه, ولو أراد ذلك لا يستطيعه
فكنت تميز في وجهه آثار معركة رهيبة بين النفس المستعصية على الصبر, والقلب العازم على الاصطبار ولو كلفه ذلك ما كلفه, ونتائج هذا الصراع كانت تظهر على لسان الشيخ الذي ما فتىء يحمد الله – تعالى – ويشكره ويسأله العون.. وظهر في دعوات وابتهالات كان يضرع بها إلى الله – تعالى – في جوف الليل, إذا خلا إلى ربه يسأله أن يخفف عنه فإنه ضعيف لا يقوى على هذا البلاء بدون عونه, وفقير لا يقوى على مصاريف الصبر ليحصل على ثوابه بغير مدده, ولطالما سمعته في جوف الليل وهو يدعو فأؤمن على دعائه وربما لم يحس بي, ولم يشعر بي, كنت أسمعه يناجي الله – تعالى –مناجاة تذيب جماد القلوب وتستقر منها في أعماق الأعماق, وحفظت من كلماته وهو يدعو بها في ضراعة ضارعة وتبتُل كبيرين قوله: "يا رب, يا رب أنت مطلع علي... وأنت يا ربي العلي... أنت ترى عبدك الضعيف الفقير الذليل وتطلع عليه فارحمه وقوّه من ضعف... وانظر إليه وارحمه, واكتب له مغفرتك, اللهم قوني ولا تضعفني عن درجة الصابرين المبتلين, اللهم إنك ترى ما أنا فيه من شدة البلاء فارفع ذلك عني... اللهم لا تحرمني الأجر على ما أنا فيه, واغفر كل حوباتي.....!!!".
في خشوع العابد القانت, وخضوع الأواب الضارع, وفي هدأة الليل وسكونه, كان يتوجه إلى الله بهذا الدعاء , وكنت أسمعه وهو يردده بصوته المتقطع المتهدج الخاشع, يغالب الضعف الذي فرضته عليه سنه الكبيرة, فأحسب أنه آت من بعيد يشق القلب كما يشق ضوء الفجر ونوره عتمة الليل ببشائر الصبح وتباشيره , فإذا هي تخترق القلب وتستقر في الأعماق تنتزع منها التأمين, ولكم تكرر هذا الدعاء في أيام وليالٍ.
.............................
لقد كانت مواقف الشيخ -رحمه الله- كلها تعليماً وعظة ً!!, لقد كنا نعود الشيخ لنواسيه فإذا به هو يواسينا, ونود أن لو تكلمنا عنده بأحاديث الصبر والصابرين رجاء أن يذكرها فإذا هو الذي يعظنا بها قولا ً وحالاً وعلى حد تعبير أحد عواده يوما – وقد سألته انا: كيف وجدن الشيخ؟ - فقال: والله ما ذهبت إلى أحد إلا وعظته فلما ذهبت إلى الشيخ إذا هو يعظني كأنني المصاب وهو العائد لا المعود!
...............................
مرت الايام على هذا النحو نعود الشيخ ونجلس معه ونذهب الى بعض الاعمال فما نفتأ نغعود اليه سراعا ..... وفي يوم من الايام قضيته معه كان بعده يوم لم أذهب اليه فيه , وقد مر علي طويلا , فنمت وانا امني نفسي ان اذهب اليه في صباح اليوم التالي وفي ذلك الصباح جاءني صوت يوقظني من النوم ..... أحمد ....أحمد... قم... لقد مات الشيخ!!
جاءت الكلمات من بعيد كأجراس تدق فانتبهت وأنا في غمرة التفكير ماذا؟! قبل أن ألقاه!! لقد كنت منتظراً أن أعود الشيخ مرة أخرى, وألا أفارقه... فعلا مات؟؟؟
وكانت حقيقة .... لكنها حقيقة مرة صادمة فاجعة .... نقف على تفاصيلها في اللقاء الاخير بمشيئة الله.

(اليوم الحادي عشر)
اليـــوم الاخــــير!!
يا لها من أوقات تلك التي قضيناها معاً , بل التي قضيتها في رحابه, وأين هي؟
دارت هذه الكلمات بأسماعي, وطافت ذكرياتها بخاطري, وأنا أفتح عيني أستقبل هذا الخبر الذي كان وقعه عليّ أثقل من وقع أيّ مصاب.
وكنا كندماني جذيمة برهـــة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسري وتبعـا
فلمــــــا تفرقـنا كأني ومالكـا لطول اجتمـــــــــاع لم نبت معا
..............................
في يوم الثلاثاء 17 من ذي الحجة 1426هجرية, الموافق 17/1/2006 م, أعلن عن وفاة الشيخ محمد عبدالسميع ممد صقر, بالتحديد في صبيحة ذلك اليوم حوالي الساعة الثامنة.
في فجر ذلك اليوم رحل العظيم محمد صقر في سكون من الوقت والمكان... بعد أن سكن كل ما حواليه, وهدأ كل ما يمنعه من الرحيل في هدأة هذا الوقت الجميل!
وفي غرفة من غرف مستشفى قطور المركزي .... على سرير هناك في الأعماق , بين الأسرّة الكثيرة التي تعمرها وتذخر بها, حيث لا يحس ِأحد بأحد, فكل من معاناته في شغل, وفي آهاته وأناته له كفاية!
في ذلك السكون من الزمان, وذلك السكون من المكان, في ثيابه البيضاء, قضى الشيخ حتى لم يحس به أبناؤه من بعيد, ولا ابناه اللذان كانا معه يومئذٍ "الاستاذ/ ياسر مخلوف, والاستاذ/ مصطفى مصباح ".
نعم رحل في سكون وصمت مهيبين, ومضى في هدوء, كما عاش في هدوء, لم يؤذا احدا ولم يمسسه بسوء.
خرجت فور تلقي النبأ , ونفسي يصارعها الألم, وكأن الأرض قد تغيرت والطرق قد تبدلت, لا أجد منها ما أعرفه.
لقيت أحد إخواني ذاهباً لشراء كفن الشيخ, فوقفت معه, ثم جاء آخرون, ثم ذهبنا إلى حيث نجد الشيخ ولا يلقانا, وننظره ولا يرانا, ذهبت إلى البيت واستأذنت أن أراه, ودخلت عليه مسجى, فكشفت عن وجهه ثم قبلت جبينه وخرجت, فلولا الحياء ممن عنده من بناته -ابنته وبنات اعمامها- ما خرجت وللزمته.
.................................
غسّل الشيخ ذلك اليوم الساعة الواحدة بعد الظهر , وقام على غسله من أبنائه ومحبيه مجموعة كبيرة منهم من يتولى غسله أو يساعد فيه, ومنهم من حضر الغسل وشاهد, غير من انتظر خارجاً, وكانوا كثيرين جداً من الرجال والنساء سواء,
ولك ان تقلب النظر في وجوه الموجودين فإن رأيت من آل صقر رجلا او امرأة رأيت بعده من سواهم مائة من محبي الشيخ الذين لا تربطهم به قرابة ولا نسب غير قرابة الحب في الله, وأكرم بها من قرابة!!, ونسب الأخوة في الله, وأنعم به من نسب!!,
جاءت هذه الجموع لود هذا العبد الصالح الذي قضى نحبه بعد حياة حافة بأعمال البر والخير قدم خلالها من الخير والمعروف ما تعجز الكلمات عن ذكره والعقول عن تتبع آثاره, ومعرفة أفياء ظلاله فهذا أمر يكبر مع الأيام أثره, ويمتد مع الأيام والزمان فيؤه وظله.
..........................................
وقفت مع الجموع أمام بيت الشيخ تأخذني الخطرات حينا وآخذها... وفجأة سألني الشيخ الفاضل/ عادل شريف: ألا تشتهي أن ترى الشيخ! فقلت على الفور: بلى, وصحبني حتى دخلنا معاً الحجرة التي سُجى فيها الجسد الكريم الغالي بعد أن فارقته الروح الغالية العذبة التي طالما روت الأرواح الظمأى من حولها!
انها نفس الحجرة..... التي كنت التقيه فيها ويلقاني, غير ان هذا أول لقاء التقى الشيخ فيه ولا يلقاني, وتذكرت كم جمعنا هذا المكان قبل فأكلنا فيه, وشربنا, وتحدثنا فيه, وتسامرنا , وقرأنا فيه, وسمعنا و...... ويالها من أيام عذبة جميلة, لقد قضينا في هذا المكان ليالي وأياماً طوالا ً أقضي مع الشيخ سهرة الليل إلى وقت متأخر جداً نقرأ فيه الكتب, ونطالع فيه الصحف, كان الشيخ فيها قارئاً وكنت مستمعاً وكنت منصتاً معتبراً وكان الشيخ محدثا متحدثاً!
وإن أنس فلا أنس تلك الليالي التي جمعتنا معاً على كتاب بطل الإخوان في ثورة يوليو المسمى بـــ " مذكرات عبد المنعم عبد الرءوف " واحد من أمثال العظيم محمد نجيب, انه الرجل الذي هزّ عرش الظلم في مصر, وأجبر فاروق على الرحيل ... آملا أن تكون مصر التي يضحي لاجلها أفضل من سابق عهدها وهو لا يدري بان الظلم سوف يتلوه ظلم حتى يترحم هو على العهد السابق, اذ سرق تضحياته من لا يعرف مصر , ولا يقدرها قدرها ... وصدق من قال: رُب يوم بكيت منه فلما انقضى بكيت عليه!!
............
أوقاتاً ماتعة ً عامرة بالعيش في رحاب التاريخ والفكر ومصانع الرجال, كم كانت تلك الأيام... "......", انها لا توصف فلتبق هكذا تعجز كل النعوت عن إعطائها حقا وقدرها – كما كانت تتلألأ في آفاق القلب سمّواً وروعة وجلالاً, أدعها أيضا تتألق وتأتلق عظمة وبهاءً حتى يكون لقاء قريب يجمعنا الله فيه بهذا المعين المعين ننهل ثانية من وردها ونروي من سلسبيلها!!
اجتمعت عليّ تلك الأفكار وأنا أقف على باب الحجرة, وأخطو بقدميّ إلى داخلها متذكرا مع كل لحظة في الطريق إليها مواقف ومواعظ , وآيات وحكايات, لا تنسى , فتهنل الدموع السوافح!
ودخلت على الشيخ وكشفت عن الوجه الأنور الأزهر, وقبلته بين عينيه ثم سجيته مودعاً وأنا موقن أن ليس هذا باللقاء الأخير, وخرجنا من عند الشيخ أنا وصاحبي يجمع همي على التفكير في أن أشترك في غسل الشيخ.
....................
مكثنا حتى آذان الظهر, ثم آذنوا الناس بالغسل, ورجوت إخواني ألا يحرموني فضل المشاركة في غسل الشيخ وتكفينه, وكان فضل الله ميسوراً, فكان لي ذلك الشرف الذي لا زلت أحمد الله عليه, وأشكر إخواني على تسهيله لي, وكان أن غسّل الشيخ, فماذا وجدت من الشيخ؟!
وجدت من الشيخ نوراً يعلو جبهته التي ما سجدت إلا لله بارئها, وهيبة ً في مماته زادت عن هيبته حياً , فلله دره من عبدٍ صالح, حفظ الله في حياته فحفظه حياة ً وموتاً!!
..................
جاءت الجموع لتكون في وداع الشيخ كما كان في خدمتها كلّ أيامه, تحرص على ذلك رائية فيه رداً لبعض الجميل لهذا المسلم الشهم النبيل, أو علّها ترضي قلبها الذي يعاتبها معاتبة على تفريطها في حق الشيخ الذي بذل لهم حياته في سبيل سعادتهم بينما بذلوا هم له فضول أوقاتهم, إن لم يكونوا بها أيضاً عليه قد ضنوا!!
وعلى كل حال فقد جاءوا... جاءوا وفاءً للشيخ الذي أحبوه, وفاءً للشيخ الذي أدركوا قدره اليوم كما لم يقدروه من قبل.
..............................
انتهينا من غسل الشيخ – رحمه الله – في الساعة الثانية أو الثانية والنصف ثم حمل جسد الشيخ إلى المسجد للصلاة عليه ثم التوجه به إلى المقابر لدفنه, وقلبي معه, لا أجده بين جوانحي, ولا أحسه بين أضلعي, تحدثني نفسي أنه اللقاء الأخير لا ريب, وأن النظرة الأخيرة – لا شك – قد مضت ولا رجعة لها!
حمل الشيخ ولا تسأل عن تذارف الدموع السوافك من صاحب هذه السطور وكل من حضر، وهم يحسون أنهم يطيرون إلى القبر ليواروا فيه أعزّ الناس, وأغلى غالٍ ملكهم وملكوه, وأن هذا آخر رحلة يصحبهم فيها الشيخ أو قل يصحبون فيها الشيخ فما عاد لهم اليوم بصاحب ثم يعودون بعدها وحدهم في الطريق كمن ظل طوال عمره يتبع دليله في طريق فهو وإن سار فيه مئات المرات فإنه أول مرة يتركه فيها الدليل, يبقى فيها تتملكه الحيرة وتتنازعه الشكوك من صحة سيره بقدر خطواته أو قل بعدد نظراته,
............................
هكذا كان التفكير يجول بنا جولاته حتى وصلنا إلى المسجد أو وصل بنا الطريق إليه!
وقبيل العصر, وضع النعش بالمسجد , حتى أذن للعصر فصلينا, وقدّم جثمان الشيخ للصلاة عليه, وقبيل الصلاة قرئت وصية الشيخ على اسماع الحضور:
تلك الوصية التي زادت الشيخ عظمة على عظمته, ورفعته سمواً وأعلته مكانا ومقاما إذ نطق كل حرف فيها بما كان الشيخ يتخلق به من عظيم الصفات والشمائل وكأنه -رحمه الله - يأبى إلا أن يعلمنا بعد رحيله درسا في العظمة كيف تكون, ويعطينا درسا في مماته كما أعطانا الدروس في حياته, يطلب من الناس المسامحة على تقصيره في حقهم ويهيب بمن ظلمه ان يغفر له مظلمته ويوصي الناس بتقوى الله والحرص على ما يقربهم منه سبحانه.
وكان محمد صقر أخذ من نشيل ولم يعطها!!!
أمر ألا يفعل في جنازته بعد وفاته إلا ما أقره الشرع الحنيف, وجاءت به السنة المطهرة فكانت أية آية لحسن الختام الذي نحسب الله – تعالى – قد ختم به له, فأمر أن يراعى في كفنه القلة وعدم المغالاة, وفي نعشه عدم التغطية – كما هي السُنّة – وألا يتبع بصراخ, وألا يعمل له صوان ولا عزاء ولا يجلس أحد يتلقى العزاء خصيصا حتى تأخذ شكل وهيئة العزاء إلا ما يكون من تلقي أهله وأقاربه الناس في البيوت وما يلزم من جراء ذلك, كل ما أتت به السنة المطهرة – على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم – وعليه فقد نُفّذ كل ما أوصى به, فكانت آيات الصدق وعلائم التوفيق, نسأل الله له الإثابة والرحمة وجنة الخلد وصحبة النبيين والصديقين الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
......................
قدم الشيخ للصلاة عليه وقد أمّ الناس في الصلاة عليه والبكاء عليه – فقد أبكى الناس ببكائه حتى ما كاد الناس يتبنون تكبيراته من بكائه – فضيلة الأستاذ (لاشين أبو شنب) – رحمه الله هو الاخر رحمة واسعة – ثم حمل الشيخ – رحمه الله – إلى المقابر, ويا لها من لحظات!!
هذه اللحظات التي مرت كالسنوات أو السنوات منها أهون وأسرع, أبى الشيخ إلا أن يرحل خلالها في سكون بعد أن أضفى من هيبته على الموقف والناس, فما تسمع إلا أنينا وأزيزا لآهات الصدور, وأحزان النفوس من جراء ما تهمل بدموع الدامعين, وما تسف عيون الباكين, وما تمور به الأحزان في الصدور مورا, وتسير منه الدماء في عروقهم سيرا مما تكاد لهوله النفوس تتقطع , ولشدته القلوب تتشقق!!
....................
خرج موكب الشيخ يسعى إلى المقابر تتبعه الألوف التي خرجت تودع الشيخ إلى مثواه, تفيض عيونها من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يقدمون, ولو قدروا أن يقدموا أنفسهم فداءً له لفعلوا, ولو أمكنهم أن يزيدوا في حياته من أعمارهم لكان أحب شيء إليهم أن يصنعوا!!
مرت اللحظات بطيئة كأنها السنوات في ثقلها وشدة مرورها, ووصل الموكب إلى المقابر حيث مدفن الشيخ, ووقفت الناس تودع الشيخ وهي موقنة أنه الوداع الأخير, الرؤية التي لن تتكرر ثانية في هذه الدار, فكنت لا ترى منهم إلا سهمان باكيا!!
وأودع الشيخ مثواه, وأرقد في حفرته, أودعته فيها أيادي محبيه, وحمل إليها على أكتاف أصفيائه, هنالك وقفت الجموع تنتظر ولكن ماذا تنتظر؟!! لم يشأ أحد من الناس أن ينصرف أو يسرع بمغادرة المكان كأنما قد أثبتت في مكانها الأقدام بالأرض, فلم تستطع حراكا وكيف تولى ظهرها من لم يولها يوما ظهرا بل كان الود كل الود, والحب كل الحب, والبشر كل البشر, والترحاب كل الترحاب لصغيرهم قبل كبيرهم؟
ووقفت هذه الجموع لتستمع إلى كلمات المتكلمين, وأحاديث المتحدثين علها تجد في كلماتهم ما يخفف عنها بعض ما تجد من الأسى, فيقلل من حزنها وهمها ويخفف من بلوائهم ومصابهم, فيعاهدون الله – تعالى – ألا يغيب عن أذهانهم وقلوبهم حب هذا الراحل الكريم, مهما طال الزمن وامتد, ولسانهم يقول:
" سيدوم حب قد حواه القلب عن صدق ويئد, وفي الفردوس – إن شاء الله – لقاء أكيد "
...........................
تحدث من الأفاضل يومئذ الأساتذة: " فضيلة أ.د/ القصبي زلط – نائب رئيس جامعة الأزهر – والاستاذ/ محمد العزباوي – عضو مجلس الشعب سابقا ورفيق الكفاح, الأستاذ/ حمدي رضوان – تلميذ الشيخ وحبيبه, ولفيف من ابنائه.
وكأني بالناس وقد انتهت الكلمات, وسكتت الأحاديث لا يودون العودة إلى القرية, وكيف يعودون إليها ويتركون الحبيب الغالي؟! أيعودون ويتركونه هناك وحيداً؟!
أيتركونه وهو الذي ما تركهم, أيولونه ظهورهم وهو الذي ما فارقهم وجهه الباسم يوما إلا ليعود إليهم ويأنس بهم ويسعدهم ويسعى في مصالحهم ويكون الرائد الذي لا يكذب أهله, والأب الحاني, والمعلم القدوة والمربي المفضال؟!
ولكن ماذا تراه يضره من ذلك؟! لا شيء مطلقا يضره إن تركوه وحيدا وقد كان يأنس بالله وحده في حياته وحوله أهله وزملاؤه ومحبوه وتلاميذه, أما وقد صار وحيدا فهو بالله آنس وأشد فرحا ومرحا وسرورا وحبورا!!!
- أنس بالله وحده يوم أن مات أبوه وتركه وحيدا يواجه دنيا اليتم ووحش الفقر وكأس الحرمان, وقد كان صغيرا لا يعقل مما حواليه شيئا,
- أنس بالله يوم اختطفت المنون جده من وسطهم, ولما يناهز الحلم, فبقي بين امه واخيه الاكبر يشقون طريق الحياة اعتمادا على الله
- أنس بالله يوم أن اعتقل ظلما ووضع سنين عددا في سجن عبد الناصر وزبانيته الذين استعبدوا شعبا بأكمله خلقه الله حرا واسترقوه بنار الترهيب وحليب الترغيب.
- وأخيرا أنس بالله – وحده – وقد فارقه الأهل والأحباب, ووسدوه التراب!!
وقد كان من قبل أنس بالله وقد فارقته أمه, تسبقه إلى رحاب الله ورحمته, وكأنها تستطلع له الآخرة وتعبِّد له دروبها الوعرة, وهي لا تغني عنه شيئا إلا بمقدار ما دعت له ورضيت عنه لحسن بره بها وجميل صنيعه لها.
كما أنس بالله – وحده – من قبل عندما فارقه أخواه فضيلة الشيخ زين, أ/ عبد الحفيظ الأول هو المعيل له والثاني شقيق روحه ورفيق درب الإيمان والأحزان,
وأنس بالله – وحده – عندما سبقته زوجته أم سمية قبل أن تنعم برؤية ابنتها وروحها شابة أو زوجة أو أمّا.
ذهبوا جميعا وتركوه فمن كان له الأنيس في الوحشة, والجليس في الوحدة, والصاحب في السفر؟! إنه فقط الله – تعالى – وكفى به أنيسا وجليسا!!!!
حتى الناس كل الناس, كان كل منهم يقضي مطلبه ومرغبه ثم يولي مدبرا ولا يعقب إلا من رحم ربك وقليل ما هم!!!
ومن أخلص للشيخ الحب أبعدته المنايا عنه كما أبعدت شقيق روحه الأستاذ الفاضل " محمد الأعصر "!!
أو أبعدته المسافات كما أبعدت "محمد الجوهري" وغيره!!
أو أبعدته الديار كما أبعدت بضعته وجزء لحمه ودمه ابنته السيدة الكريمة " سمية – أم نور الدين ".
ذهبوا جميعا!!
وبقى الشيخ وحيدا, بل لم يكن وحده, بقى معه الله – تعالى – يأنس به ويركن إليه, ويعتمد عليه, فما ضره اليوم أن تذهب الجموع المشيعة, ويدعوه ويروحوا إلى بيوتهم ويرجعوا إليها آنسين بأهليهم وذويهم, ويؤوب هو إلى نعم الأنيس والجليس والرفيق الأعلى الذي كان دوما وأبدا أنيسه وجليسه وعليه معتمده!! نحسبه كذلك.
.................
ما كلت القلوب المؤمنة النقية تهتف بالدعاء إلى بارئها أن يرحم فقيدها, وأن يتقبلها شفيعة له, وانطلقت الدموع مغزارة تغسل هذه الدعوات مما عساه يكون قد علق بها من شوائب تمنعها من القبول في ساحة الطهر حيث لا يقبل من الدعاء إلا أطهره الخالي من كل شائبة, راجية أن تتقبل منها الدعوات, آملة في مفرج الكروب, وكاشف الغموم, ومزيل الهموم ان يلهمها الصبر!!
.................
ثم ماذا بعد؟!! عادت الجموع تجر أقدامها صوب القرية جرا, مولية ظهرها إلى المقابر, تاركة تحت أطباق الثرى رجلا من أعز الرجال عليها بل أعز الرجال على الإطلاق,
عادت وقد أنكرت نفسها ولسان حالها يردد في أسف وحسرة, هل هان علينا فوسدناه التراب؟!!
عادت الجموع وهي تحدث نفسها, وتتمنى من أعماقها أن لو يقضي الله ثانية بتلاق يملأ القلب ودا, والنفس أُنسا, والوجوه بشرا, والصدر انشراحا, والعقل علما, والنفس إيمانا ويقينا, وقد أقسمت -لو حدث- أن تفرغ القلوب كلها له, لا يملؤه شيء غيره, فهل؟
يا ليت شعري هل يعودنّ لي ذا الود من ليلي كما قد مضى؟!
إذ قلبها لي فارغ كله أم كان شيئا كان ثم انقضى؟!
................
عادت الجموع ومعها كاتب هذه السطور, تعاهده أن تبقى على الود وتلزمه ما حَيَت,فلا تنسى هذا العظيم يوما بل يظل دوما في قلبها, وعلى ألسنتها , وتظل ذكراه حية ملء قلوبها وأسماعها وأبصارها!!!
..................
يا ايها الراحل الذي ودعنا من سنين , فمرت وكانها لحظات لم تنسنا شخصه وذكره!!!!
ستظل فينا حاضرا!, نعم ستظل ذكراك في القلوب حاضرة, وستظل فينا بأعمالك الخالدة, وجهودك الظاهرة مشاهدا, وسيظل حبك في الفؤاد مسطرا... وسنظل نذكرك ونرحمك ونثني عليك الخير, وندعو لك به.
يا ايها الراحل عن أرضنا وقد تركت في كل شبر منها لك شاهدا . مهما طالت السنون سنذكرك!!
نعم سنذكرك ونذكرك بك الأجيال, نعلمها سيرتك يا خيرة الرجال, في وسط أهلينا وبين أبنائنا في ليلة صافية, سنجلس نحكي لهم قصة أعظم إنسان عرفته قريتنا, قام على خدمتها, والتفاني في تقديم الخير لها, عرفناه وعايشناه, فوجدناه مثالا في كل شيء, ونقول لهم: إنكم لن تعرفوه, ولن تقدروه قدره!!
فإن سألونا أن نقرب لهم فهم ذلك, سنقول لهم: إنك يا سيدي, كنت لحياتنا كالشمس للدنيا, وكالعافية للبدن, ونقول لهم : انظروا هل لهذين من عوض أو عنهما من غناء؟! اللهم لا, لا, اللهم!
يا ايها الراحل الذي "لا تفي بحقه كلمات الثناء", سلام عليك!!
سلام عليك يا سيدي!!
سلام عليك في الخالدين, سلام , سلام، نسأل الله – تعالى – أن يجعل مثوانا ومثواكم الجنة, وأن يجمع بيننا في دار كرامته, ولا نقول: الوداع بل إلى اللقاء! وعسى أن يكون قريبا. 
ابنك: أحمد